مدونات الطلبة

عن صناعة الطالب المقاتل

بعد مئة يومٍ من الحرب الإسرائيلية على غزة، وأكثر من خمسين يومًا على آخر ظهور له، خرج الناطق باسم كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أبو عبيدة في كلمة مسجّلة في الرابع عشر من كانون الثاني الجاري. ذكرَ المثلم كالعادة الخسائر التي كبدتها المقاومة الفلسطينية للقوات الإسرائيلية المتوغلة في القطاع والتي انسحب معظمها مؤخرًا من شماله، وأشار إلى أبرز أنواع الأسلحة محلية الصنع التي اعتمدت المقاومة عليها في استهداف الجنود الإسرائيليين. 

“جلّ الأسلحة التي نقاتل بها الاحتلال هي من صنعنا، لكن الصناعة الأهم التي نمتلكها هي صناعة الإنسان المقاتل”، هكذا قال الملثم في عبارة تركت وقعًا شديدًا عند السامعين، وتداولها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي بكثرة في إشارة لما يجعل المقاومة أكثر تفوّقًا على الاحتلال الإسرائيلي رغم تطوّر الأخير عسكريًا وتقنيًا وأمنيًا، ورغم تدمير كلّ مقومات الحياة الأساسية في القطاع الذي شهد استشهاد أكثر من 23 ألف فلسطيني وإصابة أكثر من 50 ألف فلسطيني آخر لا يحصلون على أيّ شكل من الرعاية الصحية الملائمة.

من بين كلمات الملثم التي ألهمت كثيرًا من الحوارات والملصقات والتحركّات الطلابية في الجامعات الأردنية في سياق تفاعلها مع الأحداث في غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، نتأمل في أدوات صناعة الطالب المقاتل، والذي لا يأتي للجامعة للدراسة فحسب، بل لأنّه يسعى لتطوير تفكيره، وليست دراسته فقط للحصول على العلامة، بل لزيادة المعرفة والتأمّل في دوره المجتمعي داخل وخارج الحرم الجامعي. ببساطة، إذا كانّ كل مستوطن إسرائيلي جنديًا أساسيًا أو احتياطيًا في الجيش الإسرائيلي، فإن كلّ عربي حرّ في الداخل والشتات هو مقاتلٌ على كافة المستويات. 

لصناعة “طالب” بالمفهوم النظري، يكفي أن تخلق التزامًا عند الفرد بالذهاب للمدرسة أو الجامعة بشكل مستمر، حيث يحمل كتبه ويتابع المحاضرات ويحفظ المطلوب منه ويتقدّم للامتحانات بغض النظر عن نتيجته بها. لكن لصناعة “طالب مقاتل” بالمفهوم العملي، فإنّ ذلك الطالب نفسه لا يختار تخصصه ومواده عبثًا، ولا يذهب للجامعة لمجرّد تسجيل الحضور، ولا يقيس جدوى المحاضرات وفائدتها من تحصيله الدراسي بها، ولا يحصر تجربته التعليمية في الجدول الجامعي وما يقدّمه.

أن تكون طالبًا مقاتلًا لا يعني بالضرورة أن تحمل السلاح، -وإن كان الطلبة في الجامعات الأردنية قد سبق لهم أن تنظموا في معسكرات تدريبية خلال الستينات والسبعينات- بل أن تفكر بكل ما تتعلّمه كسلاح. ذهابك للجامعة هو سلاحٌ لمحاربة الجهل في المجتمع، ونقاشاتك بين الزملاء هي سلاحك لتطوير وعيك الخاص، وتجربتك الطلابية في العمل المدني هي سلاحك لمحاربة قمع حقك في التعبير عن الرأي وإحداث التغيير. تتفاعل كلّ هذه العوامل في بيئة حيوية ومتكاملة ذات رسالة ورؤية نبيلة هي انتماؤك لوطنك ودفاعك عن سيادته ضد التهديدات الإمبريالية، في طليعتها المطامع الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة. 

القتال هو أن تجاهدَ نفسك للالتزام بالمحاضرات في نفس الوقت الذي لا يكون حضورك فيها شكليًا، وأن تنظم وقتك للمشاركة في الفعاليات الطلابية بينما تتابع دراسة امتحاناتك، وأن تقاطع المنتجات الداعمة للاحتلال الصهيوني حتّى لو كان ذلك يعني أن تحمل زجاجة المياه التي تشربها من المنزل. الطالب المقاتل هو طالب عصيّ على الاختراق والقولبة، ترشده بوصلته للموقف السليم، وتدفعه أيضًا لإدراك كلّ ما هو مشبوه ومحاربته. 

مفهوم الطالب المقاتل ليس رديفًا للطالب الناشط، بل قد يكون على العكس منه. الطالب المقاتل هو صنيعة العالم الثالث المقهور والحس الجمعي بالنضال، لكن الناشط هو صنيعة زيف وتنظير العالم الأول وفردانيته في المنفعة الشخصية. حدّد مفهوم الناشط سقف نضالنا وقيّد أوصافه في قشور سطحية؛ بينما يتحدث الناشط في الفعاليات ويتكلف باللغة مرتديًا ملابسَ أنيقة ومستندًا على عدد متابعي حسابه، قد يكون الطالب المقاتل مغمورًا لأبعد حد. بكلمات أخرى، أن تقاتل مثل الفدائي الذي يسير حافيًا ويتحرك بدون بزة عسكرية دون أن تشغلك الأضواء والمديح بقدر ما يشغلك الوطن والهم التحرري. 

لا تجبرنا هذه الحرب على إعادة التفكير في الانحياز الغربي الأبيض تجاه دعم الاحتلال الإسرائيلي على كافة الأصعدة، بل تدفعنا أيضًا لنفكر كيف نواجه هذه الانحياز بأدواتنا وقيمنا وتصوّرنا. مثل أن نتحرّر من التمويل الأجنبي ومن العصبية القبلية ومن الأجندات الغربية ومن نظرتنا للعمل الطلابي بكون فعاليات وأنشطة ترفيهية أو خدماتية، أن نتحرّر من بيع مبادئنا مقابل الحصول على منحة دراسية، أو المشاركة في أماكن تطبيعية من أجل تطوير مهاراتنا باللغة الإنجليزية، أو نستعيد المناهج والأقسام الأكاديمية في جامعاتنا لتخدم قضايانا وتساعدنا لنكون أقل ارتهانًا للغرب وأكثر تماسكًا فيما بيننا. 

ولذلك، فإنّنا نفهم أهمية التعليم في إطار تطوير الإنسان وليس تحسين قدرته على الحفظ والانضباط وإن كان ذلك جزءًا منها، التعليم هو مخاض عسير حيث يملك الطالب شخصية وبصمة يفكّر بها وتوجه ينتمي إليه حتّى لو كان هذا التوجه لا يحمل اسمًا ويمثّل فردًا واحدًا. هذا ما يجعل طالبيْن من نفس العمر والتخصص يتخرجان من نفس الجامعة بنفس المعدل يملكان مستقبلاً وطموحًا وفرصًا مختلفة، والأهم من ذلك فهمًا مختلفًا لذواتهم وأدوارهم. 

أثبت الطلبة في الجامعات الأردنية، أفرادًا وجماعات، في محطات عدّة قدرتهم على التفكير بدورهم الذي اختاروه هم وليس الذي تم تحديده لهم. وللأسف فإنّ المحطات التاريخية السابقة أفضل من النماذج الحالية. عندما تدرك أنّك مقاتلٌ وتعمل لتكون كذلك، ستعرف أنّ وجودك في الجامعة مسؤولية عليك تحملها تجاه أسرتك ومجتمعك ووطنك وقضاياتك، ومن هنا، فإنّ النظر لخطابات الملثم ليست دعوة للتذوق الأدبي أو لزيادة الشعبية على مواقع التواصل الاجتماعي أو التأثر الحماسي اللحظي، بل فرصة لنكون أكثرَ شفافيةً تجاه قصورنا وأكثر جديةً تجاه إصلاحه. 

زر الذهاب إلى الأعلى