
“22 يومًا، 21 يومًا، 20 يومًا، …”، تمتلئ الصفحة الرئيسية لحسابي على الانستغرام بمنشورات زملاء الدراسة ممن يعدّون الأيام والساعات المتبقية لحفل التخرّج الرسمي من جامعتي، جامعة اليرموك، والمقرّر في 12 آب القادم. أراقب ترقّبهم، وأنا واحدة منهم، وأفكر في تساؤلاتهم الكثيرة على مجموعات الواتساب والتي غالبًا ما تنتهي إلى مشاجرةٍ إلكترونية، وأتابع منشورات أخرى لجامعات قد بدأت بالفعل احتفالاتها، وأتوقف عند نصوص متفرّقة تحكي كيف انتظر الطلبة هذه اللحظة لتتويج أربع سنوات من الدراسة الجامعية.
إلّا أنّ جزءًا منّي يراوده هاجس الفرح والخلاص الذاتي في زمن الإبادة والتجويع، حيث الوقت في غزّة من دم، ويردنا عبر نشرات الأخبار كيف نفقد شخصًا من غزة على الأقل كل 40 دقيقة وكيف يتصاعد عدّاد استهداف المجوّعين في طوابير المساعدات أو حتى داخل خيهم. إنّ تبدّل الخرائط والموازين من حولنا يجعل الاحتفال بلحظة فارقة مثل التخرّج شعورًا ثقيلاً ومرهقًا.
لطالما قيلَ لنا إنّ التخرّج هو تتويج لمسار طويل. فالجامعة ليست تخصّصًا وحسب، بل هي فضاءٌ مفتوحٌ على كلّ المُمكنات: فيها تعيد التعرّف على نفسك ومن حولك، وتخطط لمستقبلك، وفيها تكبر وتخوض تجاربك الأولى في الفكر والنشاط والممارسة، وتحمل قضايا أمّتك، وتستوعب طاقتك على التغيير، وفيها طلّابٌ من جُغرافيّاتٍ وشرائح مُختلفة، وإن خضت تجربة السكن، ففيها عوالم جديدة من الغربة والتعلّم.
ولهذا كلّه، فإنّ الجامعة تصقل الشخصيّات -سلبًا أو إيجابًا- وتأخذ فيها الأفكار منحنياتٍ أكثر عمليّة، والتاريخ خير شاهد على القادةِ والفاعلين ممّن كان الحراك الطلابي شرارة نشاطهم السياسي والحقوقي وحتى العسكري، فضلاً عن آلاف الطلبة ممّن تؤهلهم الدراسة للانخراط في سوق العمل رغم معدلات البطالة المرتفعة وصعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
بحثتُ في مراحل دراستي الجامعية عن المعرفة التي تفوق العلم النظري وتتجاوز الكليشيهات التقليدية وتمكّنني من التمسّك بقيمي، ومن التعبير عن مواقفي بشكل جدي، وهذه المعرفة هي التي تجعلني اليوم أشعر بالعبء من الاحتفال بالتخرّج. في غزّة، إبادة تجري على مرأى ومسمع العالم من حوالي عامين، مجزرة لا تخفى مجرياتها على أحد، ولم يسلم منها شيء.
لا يمكنني تجاوز مقاطع قيام الاحتلال الإسرائيلي بقصف الجامعات والقوائم الطويلة للأساتذة والعلماء والطلبة ممّن استهدفوا واستشهدوا، وآلام الغزيين في ساحات المدارس التي تحولت لملاجئ لم تسلم هي الأخرى من القصف المستمر. ورغم هذه الإبادة التعليمية الممنهجة التي تستهدف أجيالًا كاملة وسط صمت وتواطؤ أشد قسوة، أرى كيف يتمسك الأطفال الصغار بكتبهم المدرسية وبكل فرص التعلّم المحدودة والمحفوفة بالمخاطر أملاً بمستقبل أفضل.
تشير التقارير الدولية إلى أنّ إسرائيل تقتل صفًا دراسيًا كاملاً من الأطفال كل يوم بعد أن دمرّت بشكل ممنهج البنى التحتية للتعليم وللمعيشة وللحياة في غزة. 90 ألف طالب جامعي و51 مبنى جامعي تدمّر بالكامل و57 مبنى تدمّر بشكل جزئي، والآلاف الطلبة والأساتذة والعاملين في عِداد الشهداء في وقت أصبح جمع الإحصائيات الدقيقة فيه شبه مستحيل.
ورغم أنّ الإبادة الجماعية بشكل عام والإبادة التعليمية بالتحديد باتت أمرًا واقعًا ومعروفًا بين الجميع، فإنّها لا تجد الصدى الكافي دوليًا وسياسيًا، حيث يكتفي العالم بالإدانات المتقطعة وكأنّ ما يجري ليس حقيقة. قد يبدو الحديث الآن عن التعليم في غزة شيئًا من الترف، بعد أن أصبحت أكبر الأمنيات في القطاع: شربة ماء، أو كِسرة خبز، أو أي شيء يُقيم الصُلب ويَقي من موتٍ فتّاك.
للموت في غزة ألف وجه، والتجويع أصبح سلاحًا فتّاكًا بيد المحتل، والمساعدات أصبحت مصيدةً للقتل وأداة للتطهير العرقي والتهجير القسري. وعندما أقف اليوم على نهاية مرحلتي الجامعية، بعدَ عامينِ من الإبادة كنت خلالهما شاهدةً ومشارِكَةً في هذا الزمن الثقيل، أحاول التفكير في مصير طلّابٍ مثلي، مكلومينَ اليومَ بالتجويع والحصار والفقد، وأتأمّل فيهما كيف تحوّلت فيها أحلامهم من الدراسة والعمل إلى البحث عن النجاة ولقمة العيش.
وأستعيدُ مشاهدَ متفرّقة من محطّات الإبادة: ليلة قصف مستشفى المعمداني، بدايات القصف الإسرائيلي على لبنان، أول صاروخٍ من اليمن، واغتيالات القادة والشهداء في فلسطين ولبنان، واعتقال الدكتور حُسام أبو صفية. إلّا أنّ مشاهد ومحطات كثر من الإبادة يعيشها الفلسطينيون في غزة كل يوم ولا يصلنا منها إلّا النذر اليسير.
ومّما يزيدني استحياءً، أن أتذكّر الوقفات الرمزية التي دعا لها الطلبة في الجامعة والتضييقات التي مورست على بعض الطلبة ممّن أعربوا عن تضامنهم فحسب. عندما بدأت العمل على مشروع التخرّج ضمن تخصصي في الأنثربولوجيا، احتجتُ لفهم التخطيط العمراني وأساسيّاته من زاويته الهندسية قبل الانتقال إلى المقاربة الاجتماعية، ووجدتُ سلسلةً كاملة من المحاضرات المرئية المرفوعة على منصة يوتيوب عن التخطيط العمراني في الجامعة الإسلامية في غزّة- الجامعة التي أُبيدت بكل ما فيها.
هذه المسؤولية الذي ندين بها لغزة والحجة التي تقيمها علينا كل يوم تجعلني أشعر بسذاجة الاحتفاء بتخرّجي الجامعي، وبممارسة أي مظهر من مظاهر الفرح. ولم أكن أبحث عن مزايدة بل كنتُ أبحث عن انسجامٍ بين ما أؤمن به، وما أفعله. ولذلك، لم آبه بمن أخبروني: “يا نفسية”، “هو كم مرة بيتخرّج الواحد؟”، “رح تندمي، أنا ندمت إنّي ما حضرت حفل تخرّجي”، قبل أن تشكك إحدى قريباتي في الأمر، وتمازحني إن كان وراء الاعتذار سبب آخر، كإخفاقي في مساق أو أكثر حالَ دون تخرّجي هذا الفصل.
تُغدق عليّ صديقةٌ أخرى بالنصح، عن الفرح بصفته ضرورة تتيح لي تخطّي ما فات، ليصبح الفرح شرطًا للمواصلة والاستعداد لما هو آت، لكنّها لا تدري أنّ هذا الإلحاح على حالة الفرح والاحتفال نفسها وسط الإبادة المستمرة هو ما يحول بيني وبين المضيّ في الذهاب للتخرّج. للأسف، تُختزل سنوات طويلة في مظاهر شكلية كالتخرّج والشهادة وفيديوهات الانستغرام، بدلاً من أن نتساءل عن جدوى دراستنا الجامعية ونرتقي بها ضمن القيم التحررية وإمكاناتها في إنتاج الفعل والتغيير الحقيقي.
أن يقف الإنسان عند حافة زمنٍ يُباد فيه الناس جماعيًا، ويُجوَّعون على مَقرُبةٍ كيلومترات منه. ثم يُطلب منه أن يحتفل فقط لأنّه “أنجز” شيئًا – حتى لو كان ذلك الإنجاز تخرّجًا طال انتظاره – هذا ما لا يسهل قبوله. أعرف أنّ هذا الامتناع لن يحقق شيئًا لأهل غزة، مثلما أخبرني كثيرون: “شو رح يفرِق؟”، “يعني همّا رح يستفيدوا إذا ما رحتي؟”، “بتزاودي علينا؟”، “الدنيا بدها تمشي”. إلّا أنّني أقوم به كمسائلة ذاتية لا أكثر، ولا أوجّه ضمنيًا أي اتهام للآخرين، لأنّني أعرف أنّ اختياراتنا، وإن بدت صغيرة، تقول الكثير عمّا نقبل به، وعمّا نرفضه.
إنّ الامتناع عن حضور حفل التخرّج ليس دعوة ضدّ الفرح، وليس صورة للبطولة أو المزاودة الأخلاقية، لكن ثمة شيء يزعجني في الصمت المريح واستمرار الحياة كما هي، وأعتقد أنّ هناك فرقًا كبيرًا بين العجز واللامبالاة، وبين انتظار الجدوى الفورية من كل شيء والبحث عن القيمة والمعنى في كل شيء. شكّلت الإبادة الجماعية في غزة اختبارًا مصيريًا لكل المفاهيم والقضايا التي لطالما زعمنا أنّنا ندافع عنها، وفي محطات تاريخية من أعمار قضايانا العادلة، يُعربد الاحتلال الإسرائيلي في منطقتنا ويسعى لفرضِ واقعٍ جديد، تجعلنا أمام أسئلة وجودية حول مستقبلنا وأمتنا و كينونتنا.
وفي خضمّ هذا كلّه، يُحَتّ وعيُنا ويُفتَّت ببطء، كما تفعل أمواج البحر بصخرة الشاطئ، حتى يُخرجَنا من الصراع، ويُقصينا عنه طوعًا أو قهرًا. وهذه الإزاحة المقصودة عن جوهر المعركة تمسّ شريحةً واسعة من الشباب العربي، لا سيّما من لا يرون بعينهم أثر القصف والدمار والتجويع، فيظنّون أنّ المعركة لا تعنيهم، وأنّهم ليسوا طرفًا فيها. ونسأل أنفسنا: هل التعليم مجرّد مسار فردي للنجاة؟ أم أنّه ما زال ممكنًا أن نجعل منه أرضًا جديدة للمقاومة؟ هل المستقبل مشروع شخصي؟ أم هو شأن جماعي، ورهانٌ على إمكانيّة تحرّر جماعي؟
هذا هو الحد الأدنى الذي أرجو أن نفكر بها بصفتنا طلبة وسط كل ما يحيط بنا، سواء قررنا حضور حفل التخرّج من عدمه. لنتمكّن من طرح أسئلة أكبر تتجاوز الموقف العابر أو ردود الفعل الانفعالية، فما هو معنى الفرح في زمن سفك الدماء؟ وكيف نفهم شكل الإنجاز في وقتٍ صار البقاء على قيد الحياة فيه هاجِسًا يوميًا لمئات الآلاف؟ وبأي جدوى نحتفل إن لم نكن قادرين على نصرة مبادئنا وقيمنا؟
لا أفكّر في هذه المدونة على أنّها مساحة للتذمر، بل تعبيرًا عن هاجس أظنّ أنّه يراود طلبة غيري، وعودة للتعقّل والتفكّر، وإعادة التساؤل عمّا يجب: نظمنا التعليمية، وتوجّهاتنا الفكرية، ومواقفنا الأخلاقية، وموقعنا في خارطة العالم. فالإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزّة، والتي تستهدف كل الفئات المجتمعية والبنى التحتية تطالنا بالضرورة، وما الانتهاكات المتكرّرة على امتداد فلسطين ولبنان وسوريا واليمن والعراق، إلّا مقدمة على مستقبل ينبغي أن نواجه فيه الاستعمار الإسرائيلي والهيمنة الغربية.