مدونات الطلبة

ما بين الأردن وفرنسا: مدارسنا الخاصة هي تعليمهم الحكومي

ماريا سلامة

صف دراسي لتعلّم اللغة العربية في احدى المدارس الفرنسية

بدأتْ مشكلتي مع النظام التعليمي الحكومي في الأردن منذ الصفوف الأساسيّة. كنتُ أتساءل حول دور حصص التربية الوطنية في تعميق انتمائي بشكل حقيقي، ومقدار ما أفهمه من منهاج الدين مقابل ما يجب عليّ حفظه. ومع أنّني من مُحبي التاريخ، إلّا أنّني أدركتُ حجم التسييس والزيف في مناهجنا، مثلما أدركتُ حاجتي لارتياد معهد لغات من أجل تعلّم اللغة الإنجليزية بعد الدوام المدرسي. ظننت أنّها المرحلة الدراسية الأسوأ على الإطلاق قبل أن تبدأ مرحلة التوجيهي حيث لا مجال للتفكير وكلّ ما على الطلبة فعله هو “نحت الكتب”.

شغلتني أسئلة كثيرة ولا أنكر أنّي فكّرت بترك المدرسة، لكنّني تراجعت عن ذلك بمعادلة ذهنية سريعة. كانت أختي “خريجة قد الدنيا” وبدأت بالعمل كأخصائية تغذية في مستشفى البشير، قلت لنفسي حينها إذا كانت أختي التي تحمل شهادة تتقاضى 150 دينارًا، فماذا سأتقاضى لو تركت الدراسة؟ أنهيتُ التوجيهي عام 2015 بمعدل 91%، وأردت دراسة الحقوق في الجامعة لكن خمسة أعشار حالت دون ذلك، لذا التحقتُ بتخصص اللغة الفرنسية وآدابها في الجامعة الأردنية على البرنامج التنافسي، بحسب ما قرّر القبول الموحد أنّه مناسب لي.

اعتمَدتْ جودة التعليم الذي أتلقاه في الجامعة على جديّة المُحاضِر. تعلّمتُ أساسيات وقواعد اللغة الفرنسية في الجامعة بعيدًا عن الدكاترة الذين يسردون للطلبة قصة حياتهم وذكرياتهم في أوروبا، لكنّني لم أطوّر هناك أيّة مهارة محادثة. ولذلك انضممت إلى تجارب التبادل الثقافي مع الفرنسيين المقيمين في عمّان والمهتمين باللغة العربية. شعرتُ بالغضب لبذل الجهد والوقت الإضافي لتعلّم الفرنسية خارج الجامعة، وتذكّرت حاجتي لتعلّم الإنجليزية خارج الدوام المدرسي، لكنّني قرّرت أن لا أكون مثل بعض زملائي ممّن تخرجوا من الجامعة بدون أن يستطيعوا تكوين جملة واحدة صحيحة.

حصلتُ بعد التخرج على فرصة لتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها في ثلاثة مدارس فرنسية حكومية حيث أدرّس الصفوف من الرابع حتى التوجيهي. وجدتُ أصغر الطلاب الفرنسيين عمرًا يمتلك أكثر من مهاراتي، حيث يمكّنهم النظام التعليمي من مهارات البحث العلمي واستخدام المنصات الرقمية وممارسة الرياضة وتعلّم اللغات الأجنبية. لم أستغرب من رغبة الطلبة في تعلّم اللغة العربية، لكنني استغربت مدى جديتهم بالتفكير في احتياجات سوق العمل بعد التخرج.

في تمام الثانية عصرًا، يرن جرس القراءة في المدرسة أيًّا كانت الحصة، ويأخذ كل طالب كتاب من المكتبة الموجودة داخل الصف ويبدأ بالقراءة لمدة نصف ساعة. تقوم أساليب التدريس على التعلّم التفاعلي، حيث يشرح المعلم المعلومات للطلبة في العشرين دقيقة الأولى من الحصة، ويُخصّص بقية الوقت لتطبيق المعلومات التي تم شرحها، من خلال التمارين والألعاب والممارسة. يوجد في الصف الواحد 15 طالبًا على الأكثر، ويعمل إلى جانب كل معلّم مساعد له، يتابع الطلبة ممّن يعانون صعوبات أكاديمية أو إعاقات جسدية.  

عندما انتهى عقد عملي الذي امتد لتسعة أشهر، عدت إلى الأردن للعمل كمعلّمة لغة فرنسية في مدرسة خاصة مرموقة. وبخلاف ما توقعت، وجدتُ في هذه المدرسة نظامًا تعليميًا ينافس النظام الفرنسي في مهارات البحث والرياضيات والفنون. يمكن للطلبة اختيار النظام التعليمي (الأمريكي أو البريطاني أو الكندي أو الأردني) والمناهج التي يريدها. وجدت طلبة الصف الرابع قادرين على قراءة روايات اللغة الإنجليزية وتلخيصها، وتذكّرت نفسي في عمرهم عندما كنت أدرس التصريف الثالث للأفعال.

لا تبدو المشكلة في جغرافية الأردن ولا عرقيتنا كعرب مثلما حاول بعض الدكاترة المستشرقون تصوير الأمر، لكن المشكلة هي أنّ الطالب الأردني يدفع ٣٥٠٠ دينار أردني في الفصل الواحد مقابل خدمات تعليمية ممتازة في مدرسة خاصة، بينما لا يدفع الطالب الفرنسي قرشًا واحدًا لأنّ تعليمه الحكومي ذو جودة عالية.

“اللي معوش بلزموش”، لم أبتلع صدماتي المتتالية من هذه الفروقات وفي احتكار التعليم لشريحة مجتمعية مقتدرة ماديًا. لا أسعى لوضع فرنسا والأردن في مقارنة غير متكافئة رغم أنّ المسؤولين الأردنيين يحاولون إقناعنا بقراراتهم السيئة باعتبارها ما يحدث في الدول المتقدمة، ولكنّني أتساءل عن تحوّل النظام التعليمي الأردني للرأسمالية. يحتاج الطلبة الأردنيون، في المدارس والجامعات، لمبالغ طائلة من أجل تحصيل تعليم جيّد، بالإضافة لقلقهم الدائم حول تأمين الرسوم الجامعية وتكاليف المواصلات وسلامتها، ناهيك عن تعرّضهم للملاحقة الأمنية والمسائلة القانونية بسبب النشاط الطلابي.

عدت إلى فرنسا عام 2022 لدراسة الماجستير في تخصص الدراسات الجندرية والاجتماعية والثقافية، حيث تمكنت من كتابة الأبحاث التحليلية والوصفية وإعداد الملخصات واللغة الاسبانية. أطوّر يوميًا مهارات كان عليّ تعلّمها قبل سنوات، وأدفع شهريًا 20 يورو (ما يعادل 15.42 دينار أردني) مقابل تنقل غير محدود في وسائل النقل العامة، وأحظى بفرصة عمل جزئية لتأمين نفسي ماديًا وإجازات سنوية للترفيه وسقف حريات مرتفع لممارسة العمل السياسي، لكن ما ينغّص عليّ كل ذلك هو أنّني كطالبة لا أنال هذه الحقوق في وطني.

زر الذهاب إلى الأعلى