
“القبة الحديدية فرع الأردن”، هكذا تهكّم الطلبة على قيام أحدهم بانتزاع واحدة من مظلات الجامعة للمشاركة في مشاجرة شهدتها الجامعة الأردنية أمس. تداول الطلبة عشرات مقاطع الفيديو التي توثق هذه المشاجرة، بما فيها التراشق بالحجارة أو تعرض بعض الطلبة للاصابة أو الركض العشوائي للطلبة المشاركين في المشاجرة أو حتى شكل الجامعة بعد هذه الأحداث.
استقبلت مديرية الأمن العام بلاغاً ورد لقيادة أمن إقليم العاصمة حول وقوع مشاجرة داخل الجامعة الأردنية، حيث تم على الفور إرسال تعزيزات أمنيّة ونشرها في محيط الجامعة وبالقرب من المداخل. في حين اعتقل 42 طالبًا بالتنسيق مع الأمن الجامعي من المتسببين بالمشاجرة، بعد أن نتج عنها 7 إصابات أُسعفت للمستشفى وجميعها بحالة جيدة وقيد العلاج.
تعتبر هذه الحادثة امتدادًا لظاهرة العنف الجامعي الذي يتكرر ما بين الحين والآخر. لم تكن هذه المشاجرة الأولى من نوعها رغم تزايد حجم الضرر الذي ألحقته بالبنية التحتية عن سابقاتها، إلا أن الجامعة تعاملت مع مشاكل مشابهة خلال انتخابات اتحاد الطلبة الماضية. ولذلك، يحاول هذا المقال تسليط الضوء على الأسباب الجذرية وراء استمرار حدوث هذه المشاجرات، وعلى الحلول المقترح تطبيقها للحد منها، أبرزها تفعيل العمل الطلابي الجاد.
قال نائب رئيس الجامعة الأردنية لشؤون الكليات العلمية، أشرف أبو كركي، إن المشاجرة التي وقعت داخل الحرم الجامعي الخميس بدأت بين طالبين، لكنها امتدت لاحقاً لتشمل مجموعة من أصدقائهما. وأوضح أبو كركي أن الجامعة بدأت بجمع المعلومات بالاستعانة بكاميرات المراقبة، والتحقق في أسباب المشاجرة والمشاركين فيها، حتى تتعامل مع المشاجرة وفق الأنظمة والتعليمات المعمول بها وبشكل صارم.
“قد تصل العقوبات إلى الفصل النهائي من الجامعة”، قال أبو كركي، في حين نشرت الصفحة الرسمية لقائمة النشامى على الفيسبوك توجيه مدعي عام شمال عمان تهم الشغب والإيذاء لـ 50 موقوفاً في المشاجرة. وعلى الرغم من أهمية هذه القرارات التي تعاقب المتورطين في المشاجرة على تصرفاتهم، إلا أن الحاجة للاستجابة للأسباب الجذرية لهذه الحوادث تزداد يومًا بعد يوم.
“بدأت المشاجرة نتيجة اختلاف في وجهات النظر وسرعان ما تحولت إلى طابع عشائري”، قال رئيس الجامعة الأردنية الدكتور نذير عبيدات في تصريح لواحدة من وسائل الإعلام الأردنية. كثيرًا ما يرتبط الحديث عن “العشائرية” في سياق العنف الجامعي، ورغم أن هذه العلاقة قد تثير حنق البعض، إلا أن دراسة تأثيراتها مهم لفهم الظاهرة.
والحقيقة أن العشائرية بمفهومها العام ليست المسبب وراء المشاجرات الطلابية، أي أن الطلبة الذين تبدأ المشاجرة بهم لا ينخرطان في المشاجرة لمجرد أن الأول قد شتم عشيرة الآخر أو لأن أحد ابناء العشائر يرى نفسه أفضل من غيره، ولكن ما يحصل هو أن الخلافات الشخصية هي التي تشعل شرارة المشكلة، وهذه الخلافات هي في الغالب متمحورة حول قضايا غير أكاديمية مثل العلاقات العاطفية أو المسائل المالية الشخصية.
تأتي علاقة العشائرية بالمشاجرات عندما يقوم كل من أطراف المشكلة “بطلب الفزعة”، وهنا تأخذ المشكلة بعدًا عائليًا أوسع وينخرط بها أشخاصًا أكثر، معظمهم يدافعون عن أحد الأطراف دون أن يعرفوا كيف بدأ الخلاف، بل لأنهم يعتقدون أن الانتماء الذي يجمعهم هو سبب وجيه للدفاع عن زميلهم. بالتأكيد، هذه الفزعات تتغذى على تناقل الأخبار وتهويلها، والصور النمطية التي تلحق ببعض العائلات، والنزعة التفضيلية التي تنظر بها بعض العشائر لنفسها.
إلا أن السؤال الآن يصبح: إذا كانت الفزعة هي المحرك الأبرز لتوسيع نطاق المشاجرات، وليست العشائرية بحد ذاتها رغم أنها هي المظلة لنظام الفزعة، فلماذا طلبة العشائر هم الأكثر انخراطًا بهذه المشاجرات منذ شرارتها الأولى؟. يعزو بعض الخبراء هذه الظاهرة إلى نظام القبول الجامعي المبني على المكرمات وليس المعدل التعليمي. بحسبهم، فإن هذا النظام يكرس في الطلبة التعصب القبلي، وعدم الخوف من العقاب، واستحقاقية المردود دون بذل المجهود اللازم.
تشير دراسة أعدها الدكتور صلاح حمدان اللوزي ويحيى الفرحان ونشرت في مجلة العلوم الاجتماعية حول أسباب العنف الطلابي إلى أن 76.6% من الطلبة يرون أن التنشئة غير السوية هي سبب العنف، و32% أرجعوه إلى ضعف العبء الدراسي، و55.2% إلى الصدمة الاجتماعية، و47.9% إلى عدم المعرفة بالتعامل مع الإناث. كما بينت الدراسة أن الطلبة الأكثر التزاما بالقانون والدراسة والذين يجيدون إدارة الوقت لا يمارسون العنف، وعادة ما تتركز هذه السمات في الطالبات الإناث.
في دراسة أخرى حملت عنوان “العنف الطلابي في الجامعات الأردنية: دراسة تطبيقية على عينة من طلبة جامعة البترا” وأعدها اسماعيل الزيود وفاطمة الطراونة، فقد أظهرت النتائج أن الجانب النفسي للطالب جاء في المرتبة الأولى كمسبب للعنف، أما العامل الثاني فكان الفروقات الاجتماعية والمستويات الاقتصادية المتفاوتة بين الطلبة، في حين كانت “الواسطة” في تطبيق القوانين الجامعية والمحاباة، هي العامل الثالث الذي يدفع ببعض الطلبة الى الشعور بالغبن والتمرد وبالتالي تفشي العنف.
تتفق هذه النتائج مع دراسة أخرى بعنوان “الأسباب والحلول للعنف الجامعي: دراسة ميدانية من وجهة نظر طالبات جامعة اليرموك الأردنية”، إذ تشير الأخيرة إلى أن الأسباب الرئيسة التي تراها الطالبات مفضية إلى نشوء ظاهرة العنف داخل أروقة الجامعة، هي التنشئة الاجتماعية السلبية، ضعف الوعي المجتمعي، الضغوط النفسية، وعدم كفاية الرقابة المؤسسية داخل البيئة الجامعية.
لا يخفى على أحد الآثار السلبية التي يتركها العنف الجامعي على الطلبة، وهي آثار تتجاوز الضرر المادي أو تخريب الممتلكات، إذ تضعف الشعور بالأمن بين الطلبة وتخلق سمعة سيئة عن الجامعة وتترك انطباع سلبي لدى الطلبة الوافدين. إلا أن الآثر السلبي الأكبر هو ذلك الذي يحصل عندما يرى الطلبة بأعينهم أن الجامعة لم تتصرف بصرامة كافية حيال المشكلة، وأن الطلبة ممن شاركوا او تسببوا في المشاجرة وجدوا طريقهم لتجاوز العقوبة المفروضة عليهم.
وعلى كثرة الحلول المقترحة لمواجهة العنف الجامعي والتي تشمل برامج التوعية والتثقيف للطلبة حول العنف وأسبابه، دعم الخدمات النفسية والإرشادية داخل الجامعة، تعزيز الرقابة والإجراءات التأديبية بما يكفل الحد من السلوكيات العنيفة، وتشجيع الحوار والمشاركة الطلابية في إيجاد حلول. إلا أن غياب العمل الطلابي الجاد لتفريغ طاقات الطلبة ورفع وعيهم وإشغالهم في تحركات حقوقية وأنشطة بناءة وقضايا تمثلهم يكاد يكون الحل الأمثل.
تعتبر المشاركة السياسية لطلبة الجامعات واحدة من أبرز مظاهر الوعي والمسؤولية المدنية لدى الشباب الجامعي، إذ تسهم في صقل شخصياتهم وتنمية قدراتهم على الحوار والتفكير النقدي. وعندما تُتاح للطلبة فرصة التعبير عن آرائهم والمشاركة في الانتخابات الطلابية أو النقاشات السياسية ضمن أطر ديمقراطية ومنظمة، فإن ذلك يعزز لديهم الإحساس بالانتماء والمواطنة الإيجابية، ويقلل من اللجوء إلى السلوكيات العدوانية أو العنف كوسيلة للتعبير عن الرأي.
لا يعني ذلك ربط المشاركة السياسية باتحاد الطلبة، فأحدهما ليس رديفًا للآخر. تشير دراسة بعنوان “درجة إسهام اتحاد الطلبة في الجامعات الأردنية الرسمية في الحد من العنف الجامعي من وجهة نظر العاملين في عمادات شؤون الطلبة”، إلى أن مساهمة اتحاد الطلبة في الحد من العنف الجامعي كانت بدرجة متوسطة. ورغم أن الدراسة قد أوصت بضرورة تعزيز دور اتحاد الطلبة عبر أنشطة توعوية وتعاونية ومؤتمرات وطنية لمواجهة ظاهرة العنف الجامعي، إلا أن النتيجة تلفت النظر إلى أن الاتحاد بحد ذاتها قد لا يكون كفيلاً بحل هذه المشكلة، بقدر ما يهم الدور الذي يقوم به هذا الاتحاد.
يمكن لاتحاد الطلبة نفسه أن يكون مظلة للتنازع في حال كانت الأسس والقيم التي بني عليها العمل ضمنه غير سليمة، مثل محاصصة الانشطة والموافقات بناءً على الانتماءات، أو استخدام لجان التحقيق كوسيلة لملاحقة الطلبة الناشطين. ما يعني أن الاتحاد نفسه هو مجرد مساحة أو وسيلة قد تساهم في تحقيق نتائج وغايات مثمرة، لكنه بنفسه ليس الغاية التي من شأنها تحقيق الفرق.
ولذلك، يمكن القول إنّ المشاركة السياسية الواعية والمُنظمة لطلبة الجامعات والعمل الطلابي الحقيقي والجاد ضمن اتحاد الطلبة أو غيره- تُعدّ أداة فاعلة للحد من العنف الجامعي إذا تمت ضمن بيئة تشجع الحوار، وتحترم التنوع، وتغرس قيم الديمقراطية والمسؤولية الاجتماعية. وإن تجاهلها أو تقييدها في المقابل، قد يؤدي إلى تنامي الاحتقان والشعور بالتهميش، مما يغذي مظاهر العنف الجامعي.



