
“أنا مقاطع، وانت؟ ادعمْ المحلي”. وقف محمّد أمام تلك اللوحات المعلّقة على الجدران، شاعرًا أنّ شیئًا ما بداخله قد تغیّر، لم یعد ذلك الطّالب الذي لا یأبه بما یحدث من حوله، بل أصبح جزءًا منھا منذ تلك اللحظة: ذلك الیوم الذي قرر فیه أن یقول “لا” لصاحب الكُشك بجانب كلیّته، رافضًا شراء منتج یدعم الاحتلال. منذ ذلك الحین، تقفز لذاكرته صور أطفال غزّة مقطوعي الأطراف كلّما فتح ثلاجة المشروبات الغازیّة، فیعود أدراجه ثابتًا على موقفه الشجاع الذي كان أكبر من عطشه بعد یومٍ جامعيٍّ متعب. لم یعد كما كان، بل اكتشف استقلالیّته الحقیقة: حریّة الاختیار. حریّة أن یملك القرار بما یرید دعمه أو مقاطعته، انطلاقًا من وعیه الذي تشكّل نتیجة بحثه عن الحقیقة، وفھمًا أنّ مقاطعته لیست حرمانًا، بل إعادة توجیه لقوّته الشرائیّة، سلاحه السلميّ وسط معركة الضّمائر.
نشأت ثقافة مقاطعة المنتجات الدّاعمة للاحتلال في الجامعات الأردنیّة منذ فترةٍ لیست بالقصیرة، ولم یكن قرار الطّلبة ولید اللحظة، بل ثمرة وعیھم وتحمّلھم المسؤولیة تجاه ما یجري حولھم من أحداث، واستبدالًا للعجز بالمحاولة، والتبعیّة بالاستقلال، والصّمت بصوتھم المسموع. وكانت بمثابة محاولة متواضعة حوّلت المقاطعة من مجرد شعار إلى فعل مقاومةٍ یوميّ، فكیف تجسّد ھذا الفعل على أرض الواقع؟ وكیف نجح الطّلبة في تحویل وسائل الإعلام ومنصات التّواصل الاجتماعيّ أداةً للتأثیر على آراء زملائھم ونشر ثقافة المقاطعة بینھم؟
انطلقت مقاطعة الطّلبة من أكشاك الجامعة والمحالّ المحیطة بھا، حیث بدؤوا من المنتجات التي یشترونھا بشكل شبه یوميّ، وشملت المشروبات الغازیّة مثل: كوكاكولا وبیبسي، ومجموعة نستلة التي تضم تحتھا نسكافیه ولیز وكت كات وغیرھا، وامتدّت لتشمل أماكن یتواجد فیھا الطلبة بكثرة كالمطاعم ومقاھي الدراسة حول الجامعة مثل: ماكدونالدز وكنتاكي ومقاھي ستاربكس وكوستا. ولم یتوقف فعلھم عن منتجات الطّعام والشّراب فقط بل شمل علامات تجاریّة كبیرة مثل: أدیداس وبوما ونایك، ومستحضرات العنایة مثل: فازلین ولو﷼ ونیفیا. حاول الطّلبة في مقاطعتھم شمول أكبر قدر من المنتجات التي تدخل في حیاتھم الیومیّة، مدركین أنّها وسیلة ضغط حقیقیّة على شركاتٍ كان لھا دور في تمویل الاحتلال بشرائه صاروخ یلقیه على شعب غزّة، أو دعم إبادة فرُِضت علیھم منذ ما یقارب السّنتین.
لم یكتفِ الطّلبة بمقاطعة المنتجات فحسب، بل حوّلوا ذلك لجھودٍ یبذلونھا على أرض الواقع، سعیًا منھم لترسيخ ثقافة المقاطعة بصفتها خيارًا دائمًا. ففي الواقع الملموس، نظّموا معارض توضّح قوائم المنتجات المستھدفة، والبدائل المحلیّة الجدیرة بالدعم، ناشرین الوعي الذي یبدأ من مقاطعة المنتجات البسیطة وصولًا للتأثیر التي یشمل جمیع جوانب الحیاة. أمّا في العالم الافتراضيّ، كانت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعيّ میدانھم الأقوى، محوّلین كلّ منشور على الفیسبوك إلى بیانٍ توعويّ یرسّخ الفكرة، وكلّ صورة ومقطع فیدیو على الإنستغرام إلى دعوة للمقاطعة. لم تكن ھذه المواقع مجرّد منصاتٍ للتواصل، بل أصبحت قوّةً إعلامیّة یستثمرونھا لصالحھم، باذلین الجھود لتمتدّ من مبادرةٍ طلابیّة إلى ظاھرةٍ مجتمعیّة دائمة.
شكّلت المنتجات المحلیّة ركیزةً أساسیّة في معادلة المقاطعة، حیث قدّمت بدیلًا فعّالًا لا یقلّ جودةً عن نظیره الأجنبيّ بل ویتفوق علیه بالسّعر والجودة والقیمة المعنویّة الذي یحمله عند دعم منتج وطنيّ. إلّا أنّ جوھر المقاطعة لا یقتصر على مجرد استبدال سلعة بأخرى، بل یتجاوز ذلك لتأسیس مبدأ رفض المنتجات التي تدعم الاحتلال وتموّله حتى ولو لم یكن لھا بدیل محليّ. بالمقابل، تجسّدت آثار المقاطعة في أرقام مالیة وخسائر فادحة تكبّدتھا العدید من الشركات الكبرى، فقد أفاد تقریر بي بي سي عن انخفاض أسھم شركة ماكدونالدز بنحو ٤٪ بعد الإعلان عن نتائج مبیعاتھا المتضررة، وكشفت سكاي نیوز عن تراجع مبیعات الفرع المصريّ بالتحدید بنسبة ٧٠٪ تقریبًا مقارنة بالعام السابق، ولم تكن ستاربكس بمنأى عن ھذا التّأثیر، حیث أشارت الجزیرة إلى تراجع مبیعات السلسلة العالمیة بنسبة ٧٪ خلال الفترة بین یولیو وسبتمبر ٢٠٢٤، بالإضافة إلى تراجع الدّخل التشغیليّ لشركة كوكاكولا في أسواق أوروبا والشّرق الأوسط وأفریقیا بنسبة ١٤٪ .
امتدّت تداعیات المقاطعة إلى القطاع الأكادیميّ، فعلى الصعید الغربيّ، شھدت جامعات عالمیّة خطوات جدیّة نحو المقاطعة الأكادیمیّة، وفقًا للعربي الجدید، أعلنت جامعة جنیف إنھاء تعاونھا مع الجامعة العبریّة في القدس وجامعة تل أبیب، فیما أعلنت جامعة إراسموس روتردام تجمیدًا فوریًا للتعاون مع ثلاث جامعات إسرائیلیّة، كما اتخذت جامعة ترینیتي كولدج الأیرلندیّة قرارًا بقطع العلاقات مع إسرائیل احتجاجًا على انتھاكات القانون الدوليّ.
أمّا على الصعید المحليّ، فتتوالى النّماذج المشرّفة التي تستحق الفخر، فوفقًا لموقع الجزیرة نت، شھدت مسابقة ھالت برایز العالمیة ٢٠٢٤ انسحاب مئات الطلبة الجامعییّن الأردنییّن فور علمھم بمشاركة جامعات إسرائیلیّة. وأعلنت كلّ من الجامعة الأردنیّة والجامعة الھاشمیّة وجامعة العلوم والتكنولوجیا انسحاب طلبتھا وھیئاتھا التنظیمیّة من المسابقة، في قرار واعٍ یرفض التّطبیع مع الاحتلال ویستنكر عدوانه المستمرّ على غزّة. إضافةً لذلك، فقد رفضت الطالبة لینا الحوراني من تخصص الھندسة المعماریّة من الجامعة الأردنیّة المشاركة في مشروع بلومبیرغ العالميّ احتجاجًا على اختیار إسرائیل بجانب الأردن لتمثیل الشّرق الأوسط عن أفضل تصمیم حضريّ للمدن. إنّ ھذه النماذج لیست سوى القلیل من المواقف المشرّفة التي یكتبھا الطّلبة بأقلام الوعي، مؤكّدة أنّ فعل المقاطعة الذي یقوده الأفراد والطلبة على حدٍ سواء لم یعد مجرد فكرة، بل أصبح یترك أثرًا لا تُخطئه الأعیُن على أرض الواقع.
ختامًا، إنّ وجود فكرة یكافح من أجلھا الإنسان ھو ما یمنح حیاته قیمتھا، ویضفي على عمله أو دراسته معنىً یتجاوز ذاته، فأنت عندما تدافع عن مبدأً تؤمن به، سواءً عبر المقاطعة أو غیرھا، ھو إعلانٌ صریح بأنّ لصوتك وزنًا وقوّة قادرتین على التغییر، فالطلبة عندما یوجّھون خیاراتھم الشرائیّة، فھي في جوھرھا أصوات في صنادیق اقتراع غیر مرئیّة، تمنح الشرعیّة أو تسلبھا.
إنّ المقاطعة لیست مجرّد ردّة فعل عابرة، بل ھي نھج حیاةٍ مستمر، وموقفٌ یعلن أنّك جزءٌ من ھذه المعادلة، وھي في الواقع أقلّ القلیل ممّا یمكن أن یقدّمه الفرد في وجه الظلم الذي یتعرّض له الملایین حول العالم، لكنّھا تظّل رسالة قویّة مفادها أنّ ھناك من یرى معاناتھم، ویحاول من أجلھا، ویقف بصفّھم معلنین أنّھا جدوى مستمرة، فھي فكرة، والفكرة لا تموت.
* هذا المقال فاز في المرتبة الثانية من مسابقة “إعلامي الأردنية” عن فئة الصحافة المكتوبة. نظّم قسم الصحافة والإعلام والاتصال الرقمي في كليّة الآداب في الجامعة الأردنيّة هذه المسابقة بالتعاون مع اتحاد الطلبة.



