
“ما في فوتة إلا بعد الدفع”، صرخ رجل الأمن في الطلبة من أمام باب كلية الأعمال داعيًا إيّاهم للدفع أو الانصراف، “اللي مش عاجبه يروح يشتكي”، بحسب قوله. ووقف أحد الطلبة لتقديم إحدى امتحاناته قرابة عشر دقائق على هذه الحالة قبل أن يبدأ تدافع الطلبة على الباب ليدخل من بينهم. ولقد تسبّب هذا التدافع أحيانًا بإصابة الطلبة، فبينما تضيق المساحة، يقع البعض منهم أرضًا دون أن يقووا على النهوض، “المشهد كان مخزي جدًا”، نقلًا عن طالبة من كلية الآداب في جامعة الزيتونة.
ليست هذه المرة الأولى التي تقوم بها جامعة الزيتونة بحرمان الطلبة من حقهم في تقديم الامتحانات، بل وابتزازهم به لدفع الذمم المالية المتراكمة، لكن هذه هي المرة الأولى التي تصبح بها الأمور بهذا التأزم. تداول الطلبة على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع الفيديو التي تشهد تدافعًا خانقًا، أو حتى محاولات أحد الطلبة للتسلق وصولاً لشباك إحدى قاعات الامتحانات، فما القصة؟ وهل يحق للجامعة -قانونيًا- القيام بذلك؟
مع بدء فترة الامتحانات النهائية في جامعة الزيتونة الخاصة، تفاجأ المئات من الطلبة غير المسددين لكافة مستحقاتهم المالية بمنعهم من الدخول لقاعات الامتحانات ما لم يصدروا إثبات براءة الذمة، وهو ما أثار موجة من ردود الفعل بين الطلبة والأهالي، وسط تساؤلات حول مدى قانونية هذا الإجراء ومراعاته لظروف الطلبة.
من المنطقي أن تسعى الجامعات لتحصيل مستحقاتها المالية، إلا أنّ الحال كان مختلفًا عمّا سبق. اعتاد طلبة الزيتونة في الفصول الماضية على إجراءات أقل حدّة وأكثر مراعاةً لظروف الطالب بشأن دخول الطلبة غير المسددين لكافة مستحقاتهم إلى قاعات الامتحان، لكن هذه المرة وبعد صدور قرار المنع عن مجلس الأمناء تشددت الجامعة ومنعت المئات من الطلبة من التقدم للامتحان واشترطت على الطلبة لتأدية الامتحان إصدار إثبات براءة ذمة بعد دفعه كافة الرسوم المستحقة.
يقول أحد الطلبة الذين قابلناهم في المدونة الطلابية “أنا خريج، والمادة هاي آخر إشي إلي، وراحت عليّ بس لأني ما دفعت. دارسها 4 أيام، شو ذنبي؟”. وفق شهادات متفرقة من كليات أخرى، لم يكن الوضع أفضل حالًا في كلية العلوم. يقول طالب هناك: “الكلية إلها أربع بوابات، سكّروهم كلهم، وخلو وحدة بس عليها خمسة رجال أمن. بيفحصوا ورقة براءة الذمة وبهويتك وكأنك داخل معسكر.. راح عليّ امتحانين بسبب هالآلية”. أمّا في كلية الهندسة، اضطر أحد الطلبة للانتظار نصف مدة الامتحان: “وصلت الامتحان وترجيت الأمن يدخلوني، وعدتهم أدفع تاني يوم، وبعد جدال طويل دخلت بس بعد ما راح نص الوقت”.
تسلّط هذه الشهادات الضوء على الأثر النفسي لهذا القرار الإداري، فضلاً عن الضغوط المالية التي سيكون على الطلبة وأهاليهم تحملها لمواجهة هذه الأزمة. بالإضافة لذلك، فإنّ الجامعة لجأت لمقايضة حقوق الطلبة بالرسوم الجامعية وتعاملت مع الامتحان بوصفة مطالبة مالية، وفي ذلك تسليع لحقوق الطلبة في التعليم، بدلاً من استحداث حقوق منطقية مثل خيارات تقسيط الرسوم أو غيرها.
في ظل ما شهده الحرم الجامعي من توتر وضغط نفسي على الطلبة، لم تقدّم الجامعة أي توضيح رسمي على صفحتها في حين تناولت بعض التحركات الطلابية القضية. وتنوعت هذه التحركات في المجمل ما بين إصدار بيانات احتجاجية من بعض الكتل الموجودة في الجامعة، إضافة إلى مخاطبات رسمية وكتب وُجّهت إلى عمادة شؤون الطلبة ورئاسة الجامعة، تطالب بإلغاء قرار اشتراط براءة الذمة وتقدّم حلولاً بديلة للمشكلة مثل تأجيل تنفيذ القرار إلى ما بعد انتهاء الامتحانات.
يقول عضو “كتلة التجديد العربية” في جامعة الزيتونة الطالب محمود وهدان إنّ “الجامعة اشترطت أن يسدّد الطالب جزءًا من المستحقات للسماح له بإجراء امتحان”، شارحًا أنّه “عليه سداد أجزاء إضافية من المستحقات كلّما أراد الخضوع لامتحان بمادة أخرى”، مضيفًا: “لو كان الطلاب يملكون المبالغ المستحقة لسدّدوها مرّة واحدة”. من جهتها، وجّهت “الحملة الوطنية من أجل حقوق الطلبة – ذبحتونا” رسالة إلى وزير التربية والتعليم والتعليم العالي، أعربت فيها عن قلقها البالغ إزاء هذه التصرفات ورأت الحملة أنّ هذا الأسلوب غير الأكاديمي “لا يجوز أن يمرّ مرور الكرام، ويستحقّ وقفة جادة من قبل الوزارة ومجلس التعليم العالي، خصوصًا أنّ آليات منع الطلاب من دخول قاعات الامتحان شهدت عنفاً من قبل الحرس الجامعي تجاههم”.
من الناحية القانونية، وضّح دليل الطالب في جامعة الزيتونة تعليمات منح درجة البكالوريوس وحددت المادتين (14 و15) منها شروط وإجراءات الامتحانات ولم يرد من ضمنها ما يشعر بحق الجامعة بالامتناع عن إدخال الطلبة لتأدية الامتحان في حال عدم تسديد كافة مستحقاتهم. كما أنّ نظام تأديب الطلبة في المادة (5) قد ذكر على سبيل الحصر لا المثال العقوبات التي يمكن إيقاعها على الطالب ولم يرد من ضمنها حرمانه من تأدية الامتحان.
والجدير بالذكر أنّ العلاقة بين الطالب والجامعة تُعد علاقة عقدية، يُفصل فيها أمام القضاء إذا أخلّ أحد الطرفين بالتزاماته. ولا يجوز لأي طرف أن يستوفي حقه بنفسه دون الرجوع إلى القضاء، إذ يُعد ذلك تصرفًا مخالفًا للقانون، وقد يرقى إلى جريمة جزائية.
كما أن الجامعة ملزمة بتسليم الشهادات للطلبة الخريجين حتى وإن لم يسددوا كافة الرسوم المستحقة عليهم، وذلك استنادًا إلى قرار صادر عن محكمة التمييز الأردنية عام 2018 (رقم 5671 لسنة 2018)، والذي اعتبر أن الشهادة الجامعية “حق ثابت يستحقه الطالب بمجرد استكماله متطلبات الحصول على درجة البكالوريوس”، وبالتالي لا يجوز حبسها لوجود دين. وقد بيّنت المحكمة أن تسليم الشهادة يُعد من الالتزامات الأساسية للجامعة، ولا يجوز الامتناع عنه بسبب وجود أقساط مستحقة، لأن ذلك يتنافى مع طبيعة المؤسسة التعليمية والغاية التي أُنشئت من أجلها.
في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، وجّه النائب معتز الهروط سؤالًا نيابيًا إلى وزير التربية والتعليم والتعليم العالي، استفسر فيه عن موقف الوزارة حيال تصرف جامعة الزيتونة، متساءلاً عن كيفية توافق هذا الإجراء مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها الطلبة، ومدى قانونية مثل هذا القرار في ظل التشريعات الناظمة للتعليم العالي والجامعات الخاصة في الأردن.
حتى اللحظة، لم تعدل الجامعة عن قرارها بشكل معلن ولم تتلقَّ الكتل أي التزام واضح أو إجراءات ملموسة رغم أن بعض الطلبة سُمح لهم بدخول الامتحانات على شكل “استثناءات”، في حين تعاطف بعض موظفي الأمن الجامعي مع بعض الطلبة الذين انهاروا باكين ومتوسلين أمام البوابات. بحسب الطلبة الذين قابلناهم، فإنّ محدودية ردود الفعل تجاه القرار لا تعكس حجم الغضب والضرر الحقيقي في أوساطهم، بل تعود إلى ضعف التمثيل الطلابي داخل الجامعات الخاصة، وغياب المجالس والهيئات الطلابية المنتخبة القادرة على التفاوض أو الضغط بشكل جماعي ومنظم.
تؤثّر هذه التصرفات على مستقبل الطلبة الأكاديمي في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة وارتفاع تكاليف التعليم، وتتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص وقد تصبح ذريعة لجامعات خاصة أخرى من أجل تحصيل أموالها بطريقة تعسفية بالضغط على الطالب في لحظة حاسمة مثل دخول الامتحان. كما أظهر القرار حجم الهوّة بين الطالب وإدارة جامعته، وكشف عن آليات أخذ القرار في الجامعات حيث تُصدر وتُنفذ دون الحاجة لسماع رأي الطالب أو معرفة ظرفه. إنّ الحل لا يكمن فقط في إلغاء القرار أو تأجيله، بل في بناء منظومة تعليمية أكثر عدالة، تسمع صوت الطالب وتحترم ظروفه، وتضع التعليم في مكانه الطبيعي: حق لا يُقايض بالمال في لحظة حاسمة.