مدونات الطلبة

حوار مع النقابي بني عبدالرحمن: واقع تدريس الطب في الأردن 

كلية الطب البشري في الجامعة الأردنية

عام 2011، التحق الطالب محمد بني عبد الرحمن بالبرنامج التنافسي (مقاعد أبناء العاملين) لكلية الطب البشري في جامعة مؤتة ليقضي ست سنوات في دراسة تخصصه الحلم. وخلالها، لم تكن التجربة الدراسية فحسب عنوانًا للمرحلة، بل أيضًا العمل الطلابي الحقوقي الذي انخرط به منذ السنة الدراسية الثانية عبر النادي الطلابي الطبي، أحد الأندية المنضوية تحت مظلة عمادة شؤون الطلبة وتعمل جنبًا إلى جنب مع اتحاد الطلبة آنذاك. شارك محمد برفقة زملائه من الطلبة الناشطين في مجموعة من الفعاليات التي نظمها النادي الطبي مثل الحملات التوعوية لمكافحة التدخين والأيام الطبية التطوعية وغيرها من الأنشطة، إلا أن اللحظات الفارقة للنادي كانت عندما تمكّنوا من إحداث تغيير يخدم حقوق الطلبة. 

يستذكر محمد هذه المحطات قائلاً إنّ أوّلها تعديل تعليمات أسس النجاح والرسوب في الجامعة، بحيث يخضع الطلبة لامتحان تكميلي في حال رسبوا بمادتين دراسيتين بدلاً من إلزامهم بإعادة السنة الدراسية. جاءت هذه المطالب أسوة ببقية الجامعات التي كانت تدرّس الطب آنذاك، وهي الأردنية والعلوم والتكنولوجيا، وانطلاقًا من حق الطلبة في الحصول على فرصة ثانية قبل تكبّد التكاليف المادية والمعنوية لسنة دراسية كاملة. أمّا المحطة الثانية فهي نجاح الطلبة في الضغط على جامعة مؤتة لتتراجع عن رفع الرسوم الدراسية لمجمل التخصصات -بما فيها الطب البشري- في البرنامجين التنافسي والموازي عام 2015، وذلك بعد جهود مكثفة نسقها الطلبة بالتعاون مع الحملة الوطنية من أجل حقوق الطلبة- ذبحتونا. 

حتى اليوم، ما زال الطلبة الملتحقين بجامعة مؤتة يتمتعون بهذه المنجزات التي حققتها الحركة الطلابية، وكذلك لم يتوقف محمد عن الدفاع عن حقوق الطلبة – بالتحديد طلبة الطب- خصوصًا بعد فوزه في انتخابات مجلس نقابة الأطباء لعام 2025 ليكون أصغر مرشح فائز في تاريخ النقابة. في هذا الحوار الموسّع، نقابل في المدونة الطلابية الطبيب والنقابي محمد بني عبدالرحمن، 32 عامًا، ليحدثنا بشفافية وتفصيل حول واقع تدريس الطب في الأردن وأبرز تحدياته اليوم انطلاقًا من تجربته الطلابية والحقوقية. 

  • بالنسبة لكثيرين، يبدو مسار دراسة الطب في الأردن معقدًا، هل يمكنك أن تخبرنا في البداية المراحل الدراسية لطلبة الطب خلال السنوات الستة؟ وما يتبعها من مراحل تدريبية تؤهله لمزاولة الطب العام أو الاختصاص؟ 

تمتدّ سنوات دراسة الطب البشري في الأردن لست سنوات، في بدايتها يدرس الطلبة المواد الطبية العامة مثل التشريح وعلم الأدوية والأحياء الدقيقة والكيمياء الحيوية، إلى جانب المواد الحرة المشتركة من التربية الوطنية واللغة العربية والإنجليزية وغيرها. يختلف نظام تدريس الطب في الأردن قليلاً بين الجامعات ولكنّه يعتمد بشكل عام على أمرين، الأول هو أنّه نظام سنوي لا يمكن للطالب فيه الالتحاق بسنة جديدة ما لم يجتز مختلف مواد السنة السابقة وبمعدل لا يقل عن الحدود الدنيا للنجاح، وثانيًا أنّه يعتمد على نظام الأجهزة (Modules) الذي يبدأ من الفصل الثاني للسنة الثانية بحيث يدرس الطلبة بشكل دقيق ومعمق أجهزة الجسم مثل الجهاز الهضمي والجهاز الدوري والجهاز التنفسي، قبل أن يبدؤوا في التدريب السريري المكثف في السنة الدراسية الرابعة. 

بعد التخرّج من كلية الطب، يلتحق الخريجون بسنة الامتياز (يتبعها امتحان للطلبة خريجي الجامعات غير الأردنية) وهي عبارة عن سنة تدريبية يمكن قضاؤها في أي مستشفى داخل الأردن أو خارجه. وبذلك، يصبح الطالب المتخرج طبيبًا عامًا، إلا أنّ معظم الطلبة لا يتوقفون عند هذا الحد لرغبتهم في الاختصاص. يمكن للأطباء الاختصاص عبر الانضمام لبرنامج الإقامة الذي يمتد ما بين 4-6 سنوات حسب التخصص (1) وتتيحه المؤسسات الطبية في أربعة قطاعات هي المستشفيات الجامعية (2) ومستشفيات وزارة الصحة والخدمات الطبية الملكية وكبرى مستشفيات القطاع الخاص (3). 

بشكل شخصي، خدمتُ سنة الامتياز في وزارة الصحة وعُيّنت فيها بصفتي طبيبًا عام 2018، وحاليًا أتخصص في مستشفى المركز الوطني للصحة النفسية لمدة أربع سنوات ضمن برنامج الإقامة، وأخضع لامتحان نهاية كل سنة حتى أتأهل للسنة التالية. خلال السنوات الأربعة، يمكنني تقديم الجزء الأول من البورد الأردني وهو امتحان نظري فقط، لكن تقديم الجزء العملي من الامتحان يكون بعد انتهاء السنوات الأربع، وحال اجتياز الجزء الأول بنجاح، وعند اجتياز الامتحان العملي، أنال درجة الاختصاص في الطب النفسي وأتابع مسيرتي العملية بما أراه مناسبًا. 

الحدود الدنيا للمعدلات التنافسية في تخصص الطب لعام 2024 بحسب موقع القبول الموحد (المدونة، 2025)
  • بحكم السنوات التي قضيتها في العمل الطلابي دفاعًا عن حقوقك بصفتك طالبًا في كلية الطب البشري، وكذلك تجربتك النقابية التي بدأت منذ عام 2018 قبل أن تصبح عضوًا في مجلسها، كيف تصف واقع تدريس الطب في الأردن؟ وما هي أبرز القضايا الملحّة التي ترتبط بهذا الوضع الراهن؟ 

لا يمكننا الحديث عن واقع تدريس الطب بدون النظر لكيف توسّع هذا القطاع. تاريخيًا، لطالما كان تدريس الطب في الأردن حصرًا على الجامعات الحكومية، وحتى عام 2015، كان هناك ست جامعات فقط تدرّس الطب البشري وهي الأردنية (بدءًا من عام 1972) والعلوم والتكنولوجيا (1984) ومؤتة (2001) والهاشمية (2006)، ثم تبعتها جامعتي اليرموك (2013) والبلقاء التطبيقية (2015). لغاية اليوم، جميع العاملين في الطب البشري هم خريجو هذه الجامعات لأنّ كليات الطب البشري في الجامعات الخاصة -والتي تأسست بدءًا من 2022- لم تخرّج أيًا من دفعاتها بعد.  

بالمجمل، أعتقد أنّ تدريس الطب في الجامعات الأردنية نوعي، ولطالما امتاز خريجونا بسمعة طيبة في الأوساط العملية الاقليمية والعالمية، إذ يخرج حوالي 400 طبيب سنويًا للعمل خارج الأردن. إلا أنّ ذلك لا ينفي التحديات والتي أوجزها في ثلاثة محاور رئيسية: الأولى هي الزيادة الكبيرة في أعداد طلبة الطب وما يرتبط بها من أزمات مثل البطالة وأثرها على جودة التدريب السريري، والثانية هي التكلفة المبالغ بها لرسوم دراسة الطب في الأردن وارتفاعها على مدار السنوات انطلاقًا من النظرة المادية للجامعات لهذا التخصص بوصفه “الدجاجة التي تبيض ذهبًا”، وأخيرًا التخبط في السياسات الحكومية التي تأثر بها طلبة الطب من مثل السنة التحضيرية التي جرى التراجع عنها، وكذلك نسب خفض مقاعد الطب في القبول الجامعي. 

  • دعنا نبدأ بالعبء المادي لدراسة الطب البشري في الأردن، ما هو متوسط التكلفة؟ وهل تعتقد أنّها متناسبة مقارنة بجودة التعليم والخدمات والمرافق المقدّمة للطلبة؟  

تبدأ رسوم دراسة تخصص الطب البشري في الجامعات الأردنية من 36 دينارًا للساعة الدراسية حتى 100 دينار على البرنامج التنافسي، لكن هذه المبالغ تتضاعف لتصل حوالي 350 دينارًا في البرنامج الموازي للطلبة الدوليين في بعض الجامعات. من وجهة نظري، فإنّ هذه الرسوم مبالغ بها والأهم أنّها لا تخضع لأسس واضحة، إذ تحاول الجامعات رفع رسوم هذا التخصص خصوصًا عندما تستحدثه لأول مرة. عندما أقول إنّ الرسوم مبالغ بها أقصد ذلك من مناحٍ متعددة، مثلاً الطالب الحاصل على شهادة ثانوية عامة أردنية والطالب الحاصل على شهادة غير أردنية كلاهما يجلسان على نفس المقعد ويستمعان لنفس المحاضر ويتمتعان بنفس الموارد الجامعية، إلا أنّ الاختلاف بين رسوم كل منهما هائل، ويمكن قياس ذلك على طالب البرنامج التنافسي وطالب البرنامج الموازي، أو طالب البرنامج الموازي وطالب المكرمة الجامعية. 

من ناحية أخرى، إذا كانت الجامعات الأردنية في المجمل تتشارك جوهر الخطط الدراسية وأساليب التدريس والمخرجات التعليمية، فلماذا تختلف رسوم تدريس التخصص نفسه بين الجامعات المختلفة إلى هذا الحد؟. أمّا من ناحية الخدمات، فالرسوم في ارتفاع والخدمات في تراجع، لسنوات اعتاد الدكتور المدرّس متابعة خمسة طلبة في المتوسط في برنامج التدريب السريري، اليوم يتابع الدكاترة مع حوالي 20 طالبًا في الوقت ذاته، وهو ما ينعكس بالضرورة على جودة التجربة والمخرجات. يمكننا أن ننظر للقضية بطريقة أخرى، قامت الجامعة الأردنية برفع رسوم الموازي لتخصص الطب قبل الاعتصام المفتوح، لكننا لم نر أنّ هذه المبالغ انعكست على جودة التعليم المقدّم للطلبة، إذ تُخصص في الغالب لسداد مديونية الجامعات و/أو سد النفقات الرأسمالية والجارية. 

من وجهي نظري، فإنّ الخيار الأعدل أن يكون التنافس مفتوحًا بين الطلبة على الكفاءة في امتحان الثانوية العامة الوطني لا على المستوى الاقتصادي أو أي اعتبارات أخرى، لأنّه من غير العدل أن يكون لطالب فرصة أكبر في دراسة تخصص ما لمجرد أنّ وضعه الاقتصادي أفضل من طالب آخر، وهو ما يحتمل وجود شبهة دستورية أصلاً. إنّ تنافس جميع الطلبة على نفس المعايير يرفع من جودة المخرجات التعليمية، كما يجعل تخصص مثل الطب غير حكر على طبقة اقتصادية واحدة، خصوصًا أنّ رسوم الطب كانت ترتفع في حين تتراجع الظروف المعيشية للأردنيين ومستواهم الاقتصادي.

رسوم تخصص الطب في الجامعات الحكومية في الأردن (بالدينار) نقلاً عن موقع وزارة التعليم العالي (المدونة، 2025)
  • رغم أنّ تكلفة دراسة تخصص الطب في الأردن قد تصل لثلاثين ألف دينار على البرنامج التنافسي، إلا أنّ الرغبة في دراسة هذا التخصص متزايدة، ما السبب وراء الزيادة الكبيرة في أعداد طلبة الطب في الأردن؟ وما هي المشكلات التي خلقها ذلك؟ 

هناك زيادة مهولة في أعداد طلبة الطب في الأردن، إذ يتجاوز عدد طلبة الطب الأردنيين على مقاعد الدراسة في الأردن وخارجها اليوم 30 ألف طالب بتقدير نقابة الأطباء، وبمعدل تخريج 2500 إلى ثلاثة آلاف طبيب كل عام، لا تتجاوز الحاجة المحلية السنوية من الأطباء 1100 طبيبًا، يضاف إليهم حوالي 250 طبيبًا يغادرون سنويًا للعمل خارج الأردن. السبب الرئيسي وراء هذه الزيادة وما نتج عنها من بطالة في صفوف الأطباء بلغت عام 2022 أربعة آلاف طبيبًا هي مجموعة من السياسات الحكومية التي روّجت لنظام الدورة الواحدة في التوجيهي عبر خفض مستوى الامتحانات وهو ما أسفر عن معدلات توجيهي مرتفعة جدًا، ثم ضاعفت أعداد مقاعد طلبة الطب واستمرت في ترحيل الأزمة عبر السنوات. 

يقع على عاتق وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي أن تنظر للآثار طويلة الأمد لمثل هذه القرارات، إذ لا يمكن أن يستوعب السوق المحلي هذه الأعداد بأفضل السيناريوهات، وحتى السوق الإقليمي أصبح مشبعًا من الأطباء، فضلاً عن التنافسية المرتفعة في السوق العالمي. كما يضعنا هذا الوضع في مأزق آخر، إذ يصبح مصير خريج الطب بنسبة 50% أن يكمل مساره المهني خارج بلده وكأنّ الهجرة محتّمة عليه. اليوم، تكاد تكون الأردن من أعلى الدول في العالم من ناحية النسبة بين عدد الأطباء وعدد السكان، حيث يبلغ حوالي 27.8 طبيبًا لكل 10,000 نسمة، وهو أعلى بكثير من المتوسط ​​العالمي البالغ 16.4، في حين لا ينعكس بالضرورة هذا الارتفاع على الرفاه الصحي للمواطنين.

أدركت جهات صنع القرار مؤخرًا حجم الأزمة وحاجتها لخفض مقاعد الطب، ولذلك أعلن مجلس التعليم العالي في آب عام 2023 تخفيض مقاعد الطب بنسبة 70%، عُدّلت لاحقًا إلى 50%، بالاعتماد على واقع العرض والطلب على التخصصات ومعدلات الطاقة الاستيعابية للجامعات، بحسب ما ذكر الموقع الرسمي للوزارة. إلا أنّ معدل خفض مقاعد الطب كان كبيرًا ومفاجئًا للطلبة خصوصًا وأنّ الوزارة كان من المفترض أن تلتزم بنسبة تخفيض لا تتجاوز 20% من المقاعد السابقة بحسب ما أعلنت كجزء من خطة للتخفيض التدريجي.

أعداد طلبة الطب في الجامعات الحكومية لعام 2022 بحسب موقع القبول الموحد (المدونة، 2025)
  • كيف تقيّم خطة الحكومة لخفض مقاعد الطب؟ وما الذي يعيق تحقيق أهدافها؟ 

الأزمة في هذه الاستراتيجية أنّها تحاول حل مشكلة متراكمة عبر السنوات بطريقة فورية وهي الخفض المفاجئ، فهم لم يتلزموا بالنسبة التي حددوها لأنفسهم، عدا عن كونها لا تعالج جذور المشكلة التي تسببت في زيادة أعداد طلبة الطب وارتفاع معدلات طلبة التوجيهي. هناك أزمة أخرى ترافق هذه القضية، وهي أنّ خفض مقاعد الطب في الجامعات الحكومية يتزامن مع التوسّع في منح تراخيص الجامعات الخاصة التي تدرّس الطب، وهو ما لا يحل مشكلة أعداد الخريجين ولا معدلات البطالة بين الأطباء، بل يثير أيضًا مخاوف خصخصة تدريس الطب، وتوجيه الطلبة للجامعات الخاصة. 

تأسست كليات الطب الخاصة، أبرزها جامعة العقبة وابن سينا الطبية (4)، بذريعة استقطاب الطلبة غير الأردنيين، إلا أنّ معظم طلبتها اليوم هم طلبة أردنيون لم يتمكنوا من الالتحاق ببرامج الطب في الجامعات الحكومية لأسباب مختلفة. في الوقت ذاته، استفادت كليات الطب الخاصة من قرار التعليم العالي برفع الحد الأدنى لمعدل التوجيهي للطلبة الراغبين في دراسة الطب خارج الأردن من 85 إلى 90، بينما أبقت على الحد الأدنى في الجامعات الحكومية والخاصة على 85 قبل أن تقرر رفعه مؤخرًا ل90. بالنسبة للجامعات الحكومية، فإنّ الواقع الفعلي للحدود الدنيا لقبولات الطب التنافسية لا تقل عن معدل 93-94 في معظم الجامعات حتى لو كان الطلبة من ذوي المعدلات الأقل قادرين على التقدم للالتحاق نظريًا. 

  • انعكس هذا التخبّط الحكومي حيال خفض مقاعد الطب على خيارات الطلبة، ورأينا سابقًا كيف تأثّر جيل من الطلبة بقرار السنة التحضيرية قبل إلغائه، اليوم أقرّت الحكومة نظامًا جديدًا للثانوية العامة ينطوي على حقول مهنية يختار بينها الطالب بناءً على التخصص الذي يتطلع لدراسته في الجامعة، كيف تنظر لهذا القرار؟ وهل تعتقد أنّه يساهم في رفع جودة تدريس الطب وسط الجدل الذي أثاره؟ 

جاء نظام التوجيهي الجديد على عامين بحيث يختار الطالب نهاية السنة الأولى مسار دراسته ضمن أحد الحقول التالية: الحقل الصحي، الحقل الهندسي، حقل العلوم البحتة والتكنولوجيا، حقل اللغات والعلوم الاجتماعية، حقل القانون والعلوم الشرعية، وحقل الأعمال. برأيي وفيما يتعلق بواقع تدريس الطب في الأردن وتحسين مخرجاته، أعتقد أنّ هذا القرار غير موفق. في البداية، يفوق عدد الطلبة الذي قاموا باختيار الحقل الصحي عدد مقاعد التخصصات الصحية في الجامعات من الطب البشري وطب الأسنان والصيدلة والتمريض وغيرها، في هذه الحالة، لا توضّح الوزارة مصير هؤلاء الطلبة، هل هذا يعني حاجتهم لإعادة اختيار حقل آخر من أجل المنافسة على تخصصات أخرى؟ أم أنّهم قادرون على التوجه للمنافسة في كليات أخرى؟، إذا كان السيناريو الأول هو الصحيح، لا يمكنني تخيل حجم العبء المادي والنفسي على الطلبة وأهاليهم، أمّا إذا تحقق السيناريو الثاني، فهذا يعني عدم حاجتنا لتصنيفات الحقول من الأساس. 

وقعنا في نفس هذه الإشكالية وقت قرار السنة التحضيرية الذي جرى إقراره في الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا عام 2018، حيث كان عدد المقاعد أقل من عدد الطلبة، واضطر بعض الطلبة لتحويل دراستهم إلى جامعات أخرى مثل الهاشمية هروبًا من احتمالات عدم التحاقهم بتخصص الطب البشري أو طب الأسنان أو بأي تخصص آخر. هذه الفوضى تسبّب بها التخبط الحكومي ودفع ثمنها الطلبة قبل أن تدرك الوزارة عدم واقعية القرار وغياب الجدوى. هناك مشاكل أخرى رافقت هذا النظام ولست على دراية بها جميعها، لكن فيما يتعلق بالطلبة الراغبين في دراسة الطب البشري، لا يُطلب من طلبة الحقل الطبي دراسة مادتي الفيزياء والرياضيات، في حين أنّ العديد من الجامعات خارج الأردن تشترط اجتياز هاتين المادتين للقبول في تخصصات الطب والصيدلة وغيرها.

  • هناك قضية أخرى ما زالت تشغل أوساط طلبة الطب وهي أزمة أطباء الإقامة، لحظنا تحركات عديدة للمطالبة بحقوق أطباء الإقامة في ساعات العمل والأجور والإجازات، كيف نفهم هذا الخلاف؟ وأين وصلت مستجداته؟

أحب أن أصف الطبيب المقيم بأنّه “جمل المحامل” على سبيل المجاز، إذ أرى كيف تقوم مستشفيات بأكملها على الأطباء المقيمين ممّن أنهوا درجة الطب البشري وسنة الامتياز وقرّروا التخصص في واحدة من مسارات الطب. يداوم أطباء الإقامة في المتوسط من 80-120 ساعة أسبوعيًا لمدة 4-6 سنوات حسب التخصص والمستشفى، وهي فترات تتجاوز ساعات عمل أية وظيفة أخرى وتتعامل مع الطبيب على أنه “ماكينة” وليس إنسانًا، فضلاً عن انتهاكات أخرى مثل تقليص أيام الإجازات وانخفاض الأجور أو حتى إجبار الطبيب المقدم على الدفع للمستشفى بحجة التدريب. 

ورغم أنّ المجلس الطبي هو الجهة الرسمية المسؤولة عن الأطباء وأطباء الأسنان ضمن برنامج الإقامة والامتياز والتعليم الطبي، إلا أنّ كل جهة تلقي بالمسؤولية على جهة أخرى، أحيانًا يجري تصنيف الطبيب المقيم على أنّه طبيب تتحمل نقابة الأطباء مسؤوليته، أو موظف خاضع لبنود قانون العمل والعمال، أو متدرب يخضع للأنظمة والتعليمات الداخلية للمستشفيات. كما تحدثنا، فإنّ برنامج الإقامة متاح في أربعة قطاعات هي المستشفيات الجامعية ومستشفيات وزارة الصحة والخدمات الطبية الملكية وكبرى مستشفيات القطاع الخاص، وكل منها يتقدم مسارات مختلفة لبرنامج الإقامة تختلف فيها الأجور وامتيازات العمل رغم أنّ المجهود الذي يقدمه الأطباء متساوٍ. 

على سبيل المثال، تقدّم الخدمات الطبية الملكية ثلاثة أنظمة لإيفاد الأطباء المقيمين، إذ يمكن للطبيب أن يسلك المسار العسكري وبذلك يكون ضابطًا ويتمتع براتب ثابت يبلغ حوالي ألف دينار وامتيازات وظيفية شريطة أن يخدم ضعف فترة برنامج الإقامة. إلا أنّ حاجة الخدمات الطبية الملكية أكبر من هذا المسار الذي يضم حوالي 200 طبيب سنويًا، ولذلك هناك مسار المستخدم المدني يلتحق به الأطباء غير العسكريين ويحصلون على حوالي 400 دينار شهريًا. أمّا النظام الثالث فهو البرنامج غير المدفوع الأجر، حيث يخدم الطبيب في المستشفى دون لقاء أتعابه أو قد يضطر لأن يدفع للمستشفى في تخصصات معينة مثل الطب النووي، مبلغًا يبلغ حوالي 300 دينار شهريًا. 

الأطباء المقيمون ضمن هذه الأنظمة الثلاث وبغض النظر عن طريقة التحاقهم يخدمون ساعات متساوية من العمل وفي ظروف عمل مشابهة وقد يكونون إخوة، لكن أجورهم وحقوقهم العمالية متفاوتة بشكل كبير. قبل عامين، أطلقنا حملة “هجرتونا” لدفع وزارة الصحة وبعض المستشفيات الجامعية للتراجع عن مطالبة الأطباء المقيمين بالدفع للمستشفى بدلاً من دفع الرواتب لهم ونجحنا في ذلك بشكل جزئي لكن الواقع ما زال غير مرضٍ بعد، لأنّ الطبيب المقيم يعمل بدوام كامل وهو مُساءل قانونيًا وأخلاقيًا حسب قانون المسؤولية الصحية وقانون العقوبات لكنّه ما زال يُعامل على أنّه متدرب. 

بحسب لائحة الأجور الرسمية، هناك ثلاثة تصنيفات للأطباء هي الطبيب العام و الأخصائي والاستشاري، ويمكن للمجلس الطبي اعتبار الطبيب المقيم أكثر قربًا للطبيب العام لأنّه لم يصبح أخصائيًا بعد. بحسب اللائحة، فإنّ الحد الأدنى للطبيب العام هو 850 دينارًا وتزيد بحسب سنوات الخبرة. هناك أيضًا ساعات العمل التي تصل ل48 ساعة بحسب قانون العمل أو 45 ساعة بحسب وزارة الصحة، لكن لا يوجد هناك متوسط منطقي وموحد لعدد ساعات عمل الأطباء المقيمين. كما حاولت المستشفيات خفض إجازات الطبيب المقيم التي تعادل 72 يومًا سنويًا بحسب تعليمات المجلس الطبي إلى 30 يومًا واشترطت إعادة ستة شهور من التدريب أو الفصل من برنامج الاقامة كاملاً في حال تجاوزت إجازات الطبيب المقيم هذا العدد. 

بررت بعض الجهات هذه التعديلات بأنّ هذا النظام هو الساري في دول الجوار، لكنّنا ذهبنا للتعليمات الطبية في أكثر من خمس دول وتبيّن أنّ جميعها تقدّم إجازات لا تقل عن 79 يومًا وامتيازات وظيفية أفضل. بفضل جهود الأطباء المستمرة وتحركاتهم الاحتجاجية بالتنسيق مع النقابة، تمكنّا من رفع عدد أيام الإجازة من 30 يومًا إلى 45 يومًا، يضاف لها 30 يومًا بشرط أن تكون معززة بوثائق تثبت الاجازة. بالمجمل، أصبح مجموع أيام الإجازة 75 يومًا رغم أنّ طموحنا كان تحقيق أفضل من ذلك سعيًا لاحترام حقوق الطبيبات في إجازة الأمومة، إلا أنّ هذه التوصية كانت مُرضية نسبيًا لمختلف الأطراف ونتابع مع المجلس الطبي إقرارها عبر القنوات التشريعية ليجري نشرها في الجريدة الرسمية. 

الأصل أن تلتزم جميع المستشفيات بأجور عمل عادلة ومنصفة، وساعات عمل منطقية للأطباء المقيمين حتى لا يجري التغوّل على حقوقهم. “أنا ما بضمنلك خلال خمس سنوات إني ما أمرض”، هذا كان شعارنا أمام المجلس الطبي وسنظل نتابع هذا الملف لحين تحقيق تقدم فيه، والعمل على منجزات أخرى مثل حقوق جميع الأطباء المقيمين في الحماية الاجتماعية من التأمين الصحي والضمان الاجتماعي. 

  • مع فوزك في عضوية مجلس نقابة الأطباء وفي ضوء هذه التحديات الملحّة التي تحيط بتخصص الطب محليًا، ما هي الملفات التي تتطلع للعمل عليها؟ وما هي نصائحك للطلبة الذين يتطلعون لدراسة الطب؟ 

العمل النقابي عمل تراكمي بالضرورة وواجبي أن أكمل من حيث وقفت المجالس السابقة، هناك الكثير من الملفات العالقة حيال ظروف عمل الأطباء في الأردن، لكنّي سأظل أدافع عن حقوق طلبة الطب، وجودة وعدالة التعليم، ومظالم الأطباء المقيمين، وهي جميعًا كانت جزءًا من برنامجي الانتخابي. بصفتي طبيبًا مقيمًا، لا أنظر لهذه المرحلة بصفتها فترةً مؤقتة وإن كانت ستنقضي مع انتهاء فترة خدمتي وتقدّمي للامتحانات السنوية، لكنّي حريص على أن لا يمر أي طبيب مستقبلاً بظروف سيئة تحرمه من حقوقه الإنسانية والعمالية. 

أنصح طلبة الطب بالبحث عن شغفهم ودراسة واقعهم، لأنّ اتباع واحد من الأمرين دون الآخر قد لا يلبي طموح الطلبة المهني، خصوصًا أنّ طلبة الطب منهمكون في دراسة تخصصهم ولا يملكون الوقت الكافي للعمل الطلابي أو الأنشطة اللامنهجية، وهو ما يجعلهم في النهاية غير قادرين على العمل في أي تخصص آخر سوى الطب. جزء من هذه النصائح موجّهة للأهالي، إذ يجب أن لا نهرب من حقيقة التشبع الهائل في تخصص الطب محليًا وذلك بحسب تصنيفات ديوان الخدمة المدنية، وهذا يعني أن تخرجك طبيبًا لا يكفي بحد ذاته، لأنّك تحتاج أن تكون على قدر عالٍ من الكفاءة. 

في كثير من الأحيان، قد لا تكون دراسة الطب مجدية بالشكل الذي يتخيله الناس، لأنّ الطب ليس من ضمن المجالات التي تفتح باب الثراء، إنه باب لخدمة الناس وفي أحسن الأحوال يضمن لك الحياة الكريمة، في حين أنّ الطلب العالمي يتزايد على تخصصات أخرى مثل تكنولوجيا المعلومات. أعرف أطباء ما زالوا يسددون قروضهم الدراسية بعد تخرجهم، وأطباء آخرون عالقون ما بين إعالة أسرهم أو تكوين أنفسهم، وهذا الواقع ليس ظرفًا شخصيًا يمس الأفراد فحسب، بل يؤثر على الأمن الصحي للمواطنين. كما أنّه ليس مسؤولية ملقاة على الطلبة والأهالي، بل ملفًا تتحمله السياسات الحكومية التي ينبغي أن تدرس الواقع وتعالج ما تسببت به من أزمات متراكمة. 

الهوامش
 (1) تخصص الطب الباطني أربع سنوات، تخصص الجراحة خمس سنوات، تخصص جراحة المخ والأعصاب ست سنوات، في حين يمكن أن يستكمل بعض الأطباء هذا الاختصاصات الرئيسية للمتابعة في اختصاصات أدق. 
(2)  مستشفى الجامعة الأردنية ومستشفى الملك عبدالله التابع لجامعة العلوم والتكنولوجيا، ومستشفى الكرك الحكومي الذي يتبع جزء منه لجامعة مؤته، ومستشفى الأمير حمزة الذي يتبع جزء منه للهاشمية، ومستشفى السلط الجديد الذي يتبع جزء منه للبلقاء التطبيقية، ومستشفى إربد التخصصي الذي من المحتمل أن يصبح جزء منه تابعًا لجامعة اليرموك. 
(3)  مثل مستشفى الأردن والتخصصي والاستشاري
(4)  بالإضافة لأربع جامعات خاصة أخرى استحدثت تخصص طب الأسنان وهي الزرقاء والبترا وعمان الأهلية والعلوم التطبيقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى