
كثيرةٌ هي المقالات التي وثّقت تجربة باسل الأعرج، ولذلك لستُ اليوم بصدد إخباركم سيرته، طفلًا ويافعًا وشابًا في مراحل عمرية مختلفة، أو مثقفًا مشتبكًا في كل هذه المراحل، ولكنني بصدد مناقشة شخصية الباسل التي شكّل حضورها في الجامعات، ليست الفلسطينية فقط بل وخارجها أيضًا، حالة نوعية يحاكيها الطلبة ويتأثرون بها في نضالهم التحرري ضد القمع والسلطوية بكلّ أشكالها، بدءًا من صوره على الحيطان والمرسومة ببخاخ دهان مستعجل، حتى أقواله التي يرددها الطلبة فيما بينهم.
لم يحلم باسل الأعرج بعالم سعيد نظرًا لوجود الاحتلال فيه، لكنه كما كل الشباب العربيّ انطلق في حياته سعيًا للعيش بكرامة وبحثًا عن “الفرصة” الأقل سوءًا. فدرس الصيدلة في جامعةٍ مصرية وعمل صيدلانيًا لمدة عامين، لكنه اكتشف أن مشروعه المهني غير كافٍ لإيجاد الأجوبة بقدر ما قد يفعله المشروع الوطني، ولم يتوانى عن توظيف خبرته العلمية في تنظيره المعرفي حول الصراع، فهو الذي قال “القرارات الصعبة تحتاج يا عزيزي الى حزمٍ وجزم.. حاول أن تتذكر أن أزمتك الوجودية فعلًا ترتبط بقضية سامية أكبر من أي صراع آخر، دع هذا الأمر في رأسك سيساعدك على تخطيه، دع فلسطين أمام عيونك”.
يختزل هذه الاقتباس أزمة الهوية التي يمرّ بها الشباب في اكتشافهم لأنفسهم وقيمهم وأهدافهم، وقدرتهم على ربط معارفهم الأكاديمية بالشارع والواقع المُعاش، فإذا كان تعليمنا لا يصب في خدمة قضايانا المركزية، لماذا ندرس من الأساس؟ اعتزل باسل الصيدلة فيمَ بعد ليسلك الطريق الذي أيقن وجود الأجوبة في نهايته؛ وامتلك خبرة لا يمكن اكتسابها على مقاعد الدراسة ولا يمكن حصرها في أوراق الاختبارات التقليدية، رغم أنه بحث في تاريخ الثورة الفلسطينية وتجارب المقاومة الفردية وفكرة الحرب وأسس العديد من المبادرات التطوعية الوطنية والمستقلة كان أهمها دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي.
يُشبهنا باسل في قوله “منذ أن ادعيت أنني أصبحت واعياً، لم أعد أبداً الى تبسيط الصراع، لم أعد أرى كما تمّ تلقيني منذ الصغر أن هذا صراع بين عرب ويهود”، ونحن الذين في حالة تغيير وبناء دائمة، نتشرّب المفاهيم نقلًا عن الأجيال، ونحاول تشكيل تعريفاتنا الخاصة لهذه المفاهيم. لا يحتاجُ الطلبة أيضًا إلى من يرسم عنهم طريقهم ويقدم لهم التعليمات من أجل مصلحتهم، بل يحتاجون لخوض التجربة بأنفسهم، وصناعة التاريخ الذي يريدونه، بشكل مستقل عن كل الانتماءات الفصائلية والهويات الفرعية الضيّقة.
جمع باسل بين الثقافة والاشتباك، فلم يكن فيلسوفًا ومنظرًا فحسب كما آلت إليه النخب المجتمعية في وقتنا، ولم يكن مجرد مقاتلاً يجوب الشوارع بسلاحه. هذه التركيبة الشابّة التي ترهب الاحتلال، وعوانيته ممن يتمسكون بالكراسي، هي أفضل رمزية للطلبة ممن يرفضون الاستماع للقيادات التي لا تجيد إلا الكلام ويسعون لحالة نضالية حقيقية تنتمى للشارع، فالقول بدون الفعل، يعني “لا منك ولا من ثقافتك”.
امتلك الباسل الشجاعة ليقف في وجه السلطة الفلسطينية الوظيفية التي لاحقته واستهدفت صوته إلى جانب الاحتلال، هذه الشجاعة التي يريدها الجيل الشاب ممن يسعى للتغيير الجذري وليس اجراء التحسينات الشكلية فقط. أدرك باسل واقع السلطة وشراكتها في إبادة أي فرصة أو أي وسيلة للنضال ضد هذا المشروع الصهيوني، ورغم ثقافته الواسعة تحدثّ مع شعبه بلغتهم البسيطة “27 ألف كيلومتر مربع وشوي، يا دعي يابن الدعي، فلسطين هي الاجمل، حرب العصابات، قاطع طريق لمشروع سياسي”.
تظهر جدوى فعل باسل المستمرة وتزداد يومًا بعد يوم في الشوارع على نقاط المواجهة وبين أزقة المخيمات، في بارودة جُمع ثمنها قرشٌ على قرش ليغرّدَ رصاصها في الاتجاه الصحيح، وهو الذي قال “حصتك في الوطن يجب أن تتوافق مع حصتك بالدم لحماية الوطن فإن قلت فأنت ظالم، وإن زادت فأنت مظلوم”. تجوّل باسل في أرضه فامتلكها، وامتلك صوته فيها حيث يخرج مع الطلبة في جولات ميدانية تشرح التاريخ الفلسطيني، ويتناقشون بحتمية وواقعية المواجهة، ويؤسسون لمشروع فكري حقيقي من شأنه الوصول لحالة ثورية جادة.
لا تخلو سيرة باسل من الخطاب الدال على ثقافته ووعيه بهذا الصراع والتي كانت مصحوبةً بل ومسبوقةً بفعله الأفصح والأبلغ، المقاومة والإشتباك، شكّل الأعرج نموذجًا ومثالًا ينتهجه الطلبة في فلسطين وخارجها، فباسل قد وضع النقاط على الحروف، وأيقنَ واحدة من معضلات العمل الطلابي الأزلية وهي جدوى الثقافة وهدفها. ربما اعتزل باسل الصيدلة، لكن ذلك ليس دقيقًا تمامًا، فهو الذي اختار مواجهة “الاحتلال”، أصعب آفات البشرية وأشدّها، ووجد له دواءً بليغًا كاملًا هو “فعل الشهيد”.