
خاضت الأردن وفلسطين محطاتٍ تاريخيّة هامّة منذ الحكم العثماني والانتداب البريطاني ونشأة الاحتلال الإسرائيلي ووحدة الضفتين والمفاوضات العربيّة الإسرائيليّة. انعكست هذه الأحداث في قضايا الحركة الطلابيّة بين الضفتين اللتان تشاركتا الهمّ الوطني والحقوقي. يلخّص هذا المقال قصّة عشرة من وجوه الحركة الطلابيّة في الأردن وفلسطين ممن قضوا شهداءً دفاعًا عن قضاياهم العادلة، وهم: فارس عودة، ورجاء أبو عماشة، وشرف الطيبي، وشهداء اعتصام جامعة اليرموك (إبراهيم حمدان، ومها محمد قاسم، ومروة طاهر الشيخ)، وعلي جرادات، وحقي خصاونة، ويحيى عياش، وباسل الأعرج.
أيقونة الحركة الطلابيّة المدرسيّة: فارس عودة

وُلد الشهيد فارس عودة في مارس عام 1985 في حي الزيتون شمال غزة قبل أن تصبح المدينة قطاعًا محاصَرًا وجزءًا مُبعدًا عن فلسطين التاريخيّة. كانت طفولة فارس مُفعمة بالحياة والشجاعة، وقد بدا ذلك جليًّا عندما بلغَ الخامسة عشر من عمره حين اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000. عُرف فارس بتفوّقه وذكائه، واعتاد الهرب من مدرسته مُتوجّهًا لساحات المواجهة والاشتباك خصوصًا قرب “مستوطنة نتساريم”. قام مدير المدرسة بالشكوى لوالده لثنيه عن التواجد في مناطق المواجهات، لكنّه لم يكن يستجب لذلك.
قيل إنّ فارس كان يتجنّب عدسات المصورين تفاديًا لأن يراه والداه في شاشات التلفزة، ولكنّ الكاميرات التقطت له صورة أيقونيّة أمام دبابة الميركافا. أقسم فارس بعد استشهاد ابن عمومته شادي، 17 عامًا، أن يأخذ بثأره، واستشهد في نوفمبر 2000 عند معبر المنطار حيث كان يرمي الحجارة على جنود الاحتلال الذين أطلقوا النار في رقبته. رحل فارس دون أن تتمكّن سيارات الإسعاف من الوصول إليه، وذلك لأنّه كان في أقرب نقطة مواجهة مع الاحتلال وفي أعلى درجة من العلم والمبدأ.
أوّل شهيدة للحركة الطلابيّة الأردنيّة: رجاء أبو عماشة

وُلدت رجاء أبو عماشة في يافا عام 1938، حيث تلقّت تعليمها الأساسي فيها قبل أن يُهجِّر الاحتلال الإسرائيلي عائلتها في النكبة، ويستقر بهم الحال في مخيم عقَبة جبر في أريحا. أكملت رجاء تعليمها في مدارس أريحا ثم في المدرسة المأمونية في القدس عام 1952، حيث كانت من رائدات الحركة النسائيّة، وعضوةً في الحزب الشيوعي، وأحد مُؤسسي الاتّحاد العام للطلبة الأردنيين.
قادت رجاء عام 1955 مظاهرة ضد حِلف بغداد الذي يهدف إلى محاولة ضمّ الأردن إليه لمواجهة المدّ الشيوعي في المنطقة العربيّة، واقتحمت السفارة البريطانيّة ورفعت عليها العلم الفلسطيني. استشهدت رجاء برصاص الأمن الأردنيّ لتكون أوّل شهيدة للحركة الطلابيّة الأردنيّة. شُيّع جثمانها في جنازة وطنيّة حاشدة رغم حظر التجوال، وأثار استشهادها مظاهرات شعبيّة قادها أعضاء اتحاد الطلاب الوطني. رحلتْ رجاء وهي لم تتجاوز السابعة عشر من عُمرها ورثاها الشاعر عبد الكريم الكرمي بأبيات من الشّعر: “منسية مثل بلادي رجاء، مرت كما مر شعاع الضياء”.
مُؤسس الكتيبة الطلابيّة: علي عبد القادر جرادات

غادرَ عبد القادر أو “سعد” بحسب اسمه الحركي، قريته سَعير في مدينة الخليل إلى جبل النصر في الأردن بعد هزيمة حزيران. عَمِل سعد مُدرّسًا ومدرّبًا للأشبال في منطقته، وانضم إلى حركة فتح حيث التحق بصفوف الثورة الفلسطينيّة ووصل لرتبة رائد. انتقل سعد إلى لبنان عام 1974 ليكمل دراسته الجامعية للغة العربيّة في بيروت، حيث تم انتخابه عضوًا في مؤتمر الاتّحاد العام لطلبة فلسطين ونائبًا لرئيسه.
مع بدء الحرب الأهليّة في لبنان عام 1975، شكّل سعد الكتيبة الطلابيّة “الجرمق” من زملائه في الجامعات اللبنانيّة بهدف حماية مناطق قوّات الثورة الفلسطينيّة. لم تكن الكتيبة مجرد تجربة عسكريّة طلابيّة؛ بل كانت ساحة فكريّة ناقدة، تفاعلت فيها الأفكار الوطنيّة والقوميّة والأمميّة وانخرطت فيها الطالبات -على رأسهنّ دلال المغربي-. عُرف سعد بوعيه السياسي والتنظيمي حيث ألّف كتابًا مع رفيقه الشهيد جورج عسل بعنوان “أفكارٌ ثورية في ممارسة القتال”. استشهد سعد في معركة برج الناصرة عام 1976 برصاص الكتائب اللبنانيّة.
شهداء اعتصام اليرموك: مها وإبراهيم ومروة

نظّمت الجمعيات الطلابيّة في جامعة اليرموك مسيرات احتجاجيّة رفضًا لقرار استيفاء رسوم ماليّة بمقدار 90 دينار عن التدريب العملي لطلبة كلية الهندسة. بدلًا من التراجع عن قرارها، أعلنت الجامعة فصل 32 طالبًا واعتقلت الأجهزة الأمنيّة عددًا من الطلاب الآخرين. استمرّت الاحتجاجات للمطالبة بإلغاء قرار الرسوم وإخراج المعتقلين، وإيقاف التدخّل الأمني في القضيّة، والمطالبة بإقامة اتّحاد عام لطلبة الأردن.
أقام الطلبة في أيار عام 1986 اعتصامًا داخل مباني الجامعة، قرروا فيه تمزيق أوراق الامتحانات وامتنعوا عن دخول القاعات التدريسيّة. حظي الطلبة باحترام الهيئة التدريسيّة وتعاطفهم، لكن قوات الأمن طوّقت أسوار الجامعة واعتقلت نحو ستين طالبًا. في اليوم الثالث للاعتصام، اقتحمت قوات الأمن والجيش الساعة الواحدة والربع صباحًا حرم الجامعة مستعملة القوة لفض الاعتصام، وبدؤوا بضرب الطلبة بالهراوات وأطلقوا عليهم العيارات الناريّة، فاستشهد الطلبة إبراهيم حمدان، ومها محمد قاسم، ومروة طاهر الشيخ.
يعتبر الاعتصام واحدة من المحطات السوداء في تاريخ الحكومة الأردنيّة، ونقطة فاصلة في العمل الطلابي. تلقّت الحكومة برقيات إدانة من جهات حزبيّة ونقابيّة، ونظمت الجاليات العربيّة مظاهرات احتجاجيّة أمام السفارات الأردنيّة دعمًا للطلبة. قرّر مجلس التعليم العالي إنهاء خدمات 21 أستاذا وإداريًا نتيجة تعاطفهم مع الطلبة، وصدر “عفو ملكي” عن الطلبة المعتقلين، فيما أقيل رئيس الجامعة عدنان بدران من منصبه، وصدر قرار إداري بإيقاف الدوام في الجامعة لمدة اسبوع، كما تم إلغاء الفصل الصيفي لذلك العام.
شهيد القرار الوطني: شرف الطيبي

ينحدر شرف من أسرة موطنها الأصلي قرية طيبة المثلث، وولد عام 1960 في مخيم خان يونس الذي انتقلت له أسرته على إثر النكبة. تلقّى تعليمه الأساسي والثانوي في مدارس المخيم. اعتقلته قوّات الاحتلال الإسرائيلي لأوّل مرة عام 1978 بتهمة تشكيل إطار طلابي لحركة فتح. بعد تحرره من الأسر، انتقل لدراسة الهندسة الكهربائيّة في بلغاريا وعاد لإكمال دراسته في نفس التخصص في جامعة بيرزيت بعد أن منعه الاحتلال من السفر في إحدى زياراته لغزة.
تعرّف شرف في مطلع الثمانينيات على أبو علي شاهين، الأب المؤسس لحركة الشبيبة الطلابيّة، وساهم في وضع اللبنات الأولى لحركة الشبيبة الطلابيّة في جامعة بيرزيت كذراع طلابي لحركة فتح. أخذ شرف يؤسس لقاعدة ثقافيّة ولجهود استقطاب الطلبة وعقد المناسبات والفعاليات الوطنيّة. عام 1984، خرجت مظاهرة حاشدة للطلبة دعمًا للقرار الوطني المستقل وتأييدًا لعقد جلسة المجلس الوطني الفلسطيني في عمان. اندلعت المواجهات مع الاحتلال واستشهد شرف برصاص قناص صهيوني بينما كان يلقي الحجارة. رحل شرف عن عمر يناهز الأربعة وعشرين في سنته الجامعية الأخيرة ليكون شهيد جامعة بيرزيت الأوّل.
حقّي خصاونة: من إربد، رفضَ الاستعمار في كلّ مكان

كان حقّي خصاونة أوّل رئیس للمكتب التنفيذي للمؤتمر العام لطلبة الأردن، وهو أوّل تجمع طلابي أردني أنشأه الطلبة البعثيين والشيوعيين لرفض المعاهدة الأردنيّة البريطانيّة وحلف بغداد وتعريب قيادة الجيش. عام 1951، قاد طلبة مدرسة ثانوية إربد ومدرسة الأمة أضخم مظاهرة طلابيّة تأييدًا لنضال الشعب المصري في تحرره من المعاهدة البريطانيّة المصريّة لعام 1936 ورفضه للمشروع الاستعماري.
هتف المتظاهرون لإسقاط معاهدات الاستعمار في كلّ مكان بما فيها الأردن، وقد تصدى للمظاهرة متصرف اللواء آنذاك، عمران المعايطة، بالقوة والقمع المفرطيْن. اعتقلت الشرطة عشرات الطلاب للتحقيق معهم وأصاب رجال الأمن حقّي محمود الخصاونة برصاصة في ظهره ونُقل إلى عمان للعلاج لكنّه استشهد بعد يومين من إصابته. أضربت المدينة إضرابًا عامًا على رحيل حقّي، وسارت المظاهرات من جديد في شوارعها بشكل أشد وأوسع من السابق احتجاجًا على الأعمال الوحشيّة ومطالبةً بإسقاط المعاهدة الأردنيّة البريطانيّة.
مهندس العمليات الاستشهاديّة: يحيى عياش

وُلد يحيى في قرية رافات في سلفيت، عام 1966 وتلقّى فيها تعليمه الابتدائي، ثم انتقل إلى قرية الزاوية المجاورة ليكمل تعليمه الإعدادي فيها. أتم يحيى حفظ القرآن الكريم وحصل على شهادة من مديرية أوقاف القدس. حصل يحيى على شهادة البكالوريوس من جامعة بيرزيت في تخصص الهندسة الكهربائية عام 1993 وقضى ثمان سنوات على مقاعد الدراسة الجامعيّة بسبب الإضرابات والإغلاقات المستمرة للجامعة.
بدأت علاقة المهندس مع الكتلة الإسلاميّة/ الإطار الطلابي لحماس في عام 1984، في سنته الأولى في الجامعة، حيث حضر حفل استقبال للطلبة الجدد عُقد في مسجد بيرزيت القريب من الحرم الجامعي القديم. بدأ يحيى عمله العسكري في بدايات عام 1991 حيث بدأ بتصنيع المتفجرات بمواد أوليّة متوفرة في الصيدليات ومحلات المستلزمات الطبية، وتغيّب عن حفل تخرجه لأنّه كان مطاردًا ومطلوبًا لجهاز الشاباك بسبب دوره في التخطيط لعملية “رامات افعال” في يافا.
نفّذ العياش وخطط لعشرات العمليات الفدائيّة في العفولة والخضيرة وديزنغوف ورامات أشكول، وتمكّن من الانتقال إلى قطاع غزة لتدريب نشطاء كتائب القسام على صناعة المتفجرات. تحوّل يحيى إلى هاجس يسيطر على قادة الاحتلال الإسرائيلي ويتحداهم، واستمرت مطاردته لمدة ثلاث سنوات حتى استشهد في جباليا شمالي غزة عام 1996، بقنبلة متفجرة وُضِعت في هاتفه النقال.
المثقف المشتبك: باسل الأعرج

وُلد الباسل في قرية الولجة في بيت لحم عام 1986، وتلقّى تعليمه فيها، ثم التحق بجامعة مصريّة ليحصل على البكالوريوس في الصيدلة. عُرف بخبرته في تاريخ فلسطين وثقافته العالية ومشاركته وتأسيسه للعديد من المبادرات الوطنيّة، وحرصه الدائم على تنظيم الجولات التعريفيّة والتثقيفيّة بالقرى الفلسطينيّة. اعتقل لدى أجهزة الأمن الفلسطينيّة في عام 2016 مع مجموعة من رفاقه، ليخوضوا إضرابًا عن الطعام، في سجون السلطة الفلسطينيّة.
بعد الإفراج عنه، بدأ باسل رحلة المطاردة مع جنود الاحتلال الإسرائيلي، وتخفّى في العديد من المدن الفلسطينيّة، قبل أن يستشهد في مارس 2017 بعد اشتباك مسلح مع قوّات الاحتلال في مدينة رام الله. جُمعت مؤلفات باسل في كتابه “وجدت أجوبتي” وأُطلق عليه لقب “المثقف المشتبك”. تحوّلت سيرته إلى مرجعيّة وطنيّة يستند عليها الطلبة في الجامعات الفلسطينيّة وخارجها، لنضاله بالقلم والرصاص ومواقفه التحرريّة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الوطنيّة الفلسطينيّة.
لا تكفي هذه السطور لشرح سيرة عشرة رموز من الحركة الطلابيّة في الأردن وفلسطين، ممّن قدموا أرواحهم على كفوفهم وتركوا خلفهم إرثًا ثقيلًا، على الطلبة أن يحملوه ويحموه ويُكملوه. ستبقى سيرة هؤلاء الطلبة تُلهم الأجيال القادمة في ظل الأهداف والقضايا الحقوقيّة والوطنيّة المشتركة. لطالما رفعت الحركة الطلابيّة سقف المطالب والنضال لأنّ الحركة الطلابيّة هي بالضرورة جزء من الحركة الوطنيّة التي تجود بدماء الشهداء، وكان آخرهم الشقيقان ظافر وجواد الريماوي، طالبا التجارة وهندسة الحاسوب في جامعة بيرزيت، اللذان خرجا من الجامعة ليعودا إليها محموليْن على الأكتاف.