
وقّعت الأردن اتفاقية وادي عربة مع الاحتلال الإسرائيلي في السادس والعشرين من تشرين الأول عام 1994. أعلن رئيس الوزراء الأردني عبد السلام المجالي عن “نهاية عصر الحروب” وقال شمعون بيريز أنّ “الوقت قد حان من أجل السلام”، إلّا أنّ هذه الاتفاقية التطبيعية، والتي لحقت اتفاقية أوسلو بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي بعامٍ واحد، لقيت رفضًا واسعًا من الشعب الأردني.
كان الطلبة أحد أبرز المكونات المجتمعية التي قادت الحراك السياسي الرافض لاتفاقية وادي عربة لما تنطوي عليه من مساومةٍ على حقوق الشعب الفلسطيني واعتداء على موارد الأردن وسيادته وارتهان لقرارات الاحتلال الإسرائيلي في قطاعات حيوية مختلفة. حول هذا الحراك ومشاركة الطلبة فيه بعد مرور ثلاثين عامًا على الاتفاقية وفي ظل الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة ولبنان، نقابل في المدونة الطلابية الأستاذ عمر القطيطات، ليحدّثنا عن هذه المحطة الطلابية.
شغل القطيطات البالغ من العمر 51 عامًا، منصب رئيس اتحاد طلبة جامعة مؤته لعام 1993/1994 بالتزامن مع توقيع الاتفاقية وعشرات الاحتجاجات التي نظّمها الطلبة رفضًا للتطبيع، كما انتُخِب عضوًا في اتحاد عام 1992/1993 عن كلية الآداب حيث كان أحد أعضاء الاتجاه الإسلامي في الجامعة، ودرس تخصص الشريعة والدراسات الإسلامية، كانت حينها رسوم الساعة تعادل ثمانية دنانير للبرنامج التنافسي.
- أخبرنا عن انتخابات اتحاد الطلبة في جامعة مؤتة، متى بدأت؟ وكيف كانت تجري؟ وما هي التيارات الفكرية والسياسية التي تواجدت في الساحة الطلابية؟
كانت الأندية الطلابية المساحة الرئيسية المتاحة لتنظيم الطلبة في الجامعات الأردنية حتى عام 1992، إلّا أنّ محدودية صلاحياتها وانحصارها في الأنشطة الترفيهية والخدمية دفع الطلبة في جامعة اليرموك والأردنية ومؤته لتنظيم احتجاجات حاشدة تطالب بوجود جسم تمثيلي ينقل صوتهم ويدافع عن حقوقهم. كان هناك مخاوف عدّة بشأن هذه الاتحادات، وبالتحديد في جامعة مؤتة التي يجاور صرحها التعليمي جناحها العسكري، لكن تحت هذه الضغوط، استجابت مجالس الأمناء في الجامعات لهذه المطالب ودعت لتشكيل لجنة تحضيرية من الطلبة وعقدت أول انتخابات اتحاد طلبة في جامعة مؤتة عام 1992/1993، بالتزامن مع مرحلة من الانفتاح والانفراج السياسي التي شهدها الأردن في الانتخابات النيابية عام 1989 بعد حظر نشاط الأحزاب السياسية لسنوات.
في البداية، انتُخبت اللجنة التحضيرية لاتحاد الطلبة، وكان عدد أعضائها حوالي ثمانية وعشرين طالبًا، ثم أقرّت تعليمات الاتحاد من قبل مجلس الجامعة ومجلس الأمناء، لتجرى بعدها أول انتخابات لاتحاد الطلبة في جامعة مؤتة. عقدت الانتخابات بنظام القوائم المفتوحة وكان عدد المقاعد يحدّد بناءً على عدد الطلبة، وجرت الانتخابات على مستوى الكليات وهي الهندسة والحقوق والآداب والجراحة، ومنها تشكّل مجلس الاتحاد، وثم انتخب المجلس إدارته التنفيذية. شهدت هذه الانتخابات إقبالاً واسعًا، وكان عدد الطلبة حينها حوالي 4500 طالبًا. أعتقد أنّ الوعي السياسي الطلابي هو المحرك الرئيسي وراء رغبة الطلبة بالتفاعل مع الحدث في ظل الأجواء السياسية الإيجابية في البلاد آنذاك.
تنوّعت التيارات السياسية التي شاركت في الانتخابات، وكان أبرزها تيار وطن الذي يمثّل التوجّهات الرسمية، وتيار أبناء الضفة المقيمين في الأردن والذي يمثّل توجّهات فتح، والقوى اليسارية التي كانت تشمل الشيوعيين، وأخيرًا الاتجاه الإسلامي الذي حصد المقاعد الأكثر من اللجنة التحضرية وانتخابات اتحاد الطلبة. أمّا حول التكتلات العشائرية، فرغم تواجدها إلّا أنّها لم تكن عاملاً فاعلاً في الانتخابات، واعتقادي أنّها طرأت على الجامعة بعد تعديلات النظام الانتخابي والذي جاءت بعض نُسخه لتكريس هذه الانتماءات الفرعية.
- قبل توقيع اتفاقية وادي عربة، ما القضايا الحقوقية والوطنية التي كانت تشغل الشارع الطلابي وشكّلت أولوية بالنسبة للاتحاد؟
أول قضية حقوقية عملنا عليها في الاتحاد هي نظام العلامة المُعادة، حيث كانت الجامعة تحتسب للطالب علامة 60 من 100 عندما يرسب في إحدى المواد ويعيدها، مهما بلغت علامته في امتحان الإعادة وحتى لو حصل على علامة مئة بالمئة. لم يكن من العدل أن لا تأخذ الجامعة العلامة الجديدة بعين الاعتبار لأنّ الإعادة تكلّف الطلبة مالاً ووقتًا. تعاملنا مع هذه القضية، والتي كانت تحصل في مختلف الجامعات الحكومية، ونفّذَ الطلبة حراكًا فاعلاً حتى نجحنا بتحقيق مطلبنا وإلغاء النظام.
أذكر حينها أنّ الدكتور عبد الرحمن العطيات كان رئيسًا للجامعة، وأصرّ على عدم الاستجابة لتحركات الطلبة، إلّا أنّ استمرار الضغط ودعوات الإضراب الطلابية، دفعت رئيس الوزراء حينها عبد السلام المجالي للتدخل داعيًا الجامعة للتعاون مع الطلبة. كان هذا التحرّك الأول من نوعه في جامعة مؤتة، ودفعَ جامعات أخرى بما فيها الأردنية للتحرّك بهذا الشأن وكسر الحاجز وإلغاء النظام. أمّا على صعيد القضايا الوطنية، فقد كانت القضية الفلسطينية هي العنوان الرئيس، خصوصًا في تلك الفترة حيث كانت أحداث حرب الخليج والانتفاضة الفلسطينية تترأس عناوين الأخبار.
كان اتحاد الطلبة يأخذ قراره بالأغلبية حيث تشاركت مختلف التيارات الفكرية الموقف في القضايا الحقوقية والمركزية في كثير من الأحيان، وشكّل مكتبنا الخاص في عمادة شؤون الطلبة مساحة لتنظيم الاجتماعات وتنسيق التحركات وإدارة الميزانية البالغة حوالي عشرة آلاف دينار في السنة (دينار عن كل طالب في كل فصل).
- كيف استقبل الطلبة توقيع اتفاقية “وادي عربة”؟ ما التحرّكات التي قاموا بتنظيمها؟ وإلى أي حد كانت هذه التحرّكات مؤثّرة؟
في دورة اتحاد الطلبة الأولى، كانت الانتفاضة ما زالت مستمرّة، وثم أتت اتفاقية وادي عربة لتكون الملف الرئيسي للصراع السياسي في الجامعات. كان التفاعل مع توقيع الاتفاقية ضخمًا على مستوى الحركة الطلابية في كل الجامعات، وهي التي انخرطت في جميع التحرّكات التي رفضت أيضًا اتفاقية أوسلو ومسار السلام مع الاحتلال الإسرائيلي. في جامعة مؤتة، نفّذَ الطلبة مسيرات ومهرجانات عديدة، وشاركنا بصفتنا اتحادًا طلابيًا في اعتصام للساحة الهاشمية في عمّان دعت له القوى الحزبية المختلفة، حيث توجّهنا إلى العاصمة وأوقفتنا الجهات الأمنية على الطريق الصحراوي، لتعتقل بعض الطلبة وتفرج عنهم بعد انتهاء جميع الفعاليات.
لم يكن الاتحاد العام لطلبة الأردن حينها قد وصل لصيغته النهائية، إذ كان حينها في مرحلة المجلس التأسيسي، والتي توقّف عندها الاتحاد العام. عبر هذا المجلس التأسيسي واللجان التحضيرية واتحادات الطلبة في مختلف الجامعات، كان هناك نوع من التنسيق بين الطلبة بخصوص التحرّكات الرافضة لاتفاقية وادي عربة. كان وجود الاتحادات هامًا لمنح هذه التحرّكات غطاءًا رسميًا وشرعيًا للأنشطة، فالاتحاد هو الجسم الذي يصل عبر صناديق الاقتراع، ويمثّل مختلف التيارات الفكرية للطلبة.
ولذلك، كان تفاعل الطلبة مع هذه الدعوات ومع البيانات التي كان ينشرها الاتحاد تفاعلاً واسعًا، ولم يكن هناك فئات متخوفة من المشاركة سوى الطلبة المبتعثين. ورغم الاختلافات الأيديولوجية بين الطلبة والكتل الطلابية، إلّا أنّ الموقف من رفض الاتفاقية كان محط إجماع الحركة الطلابية الأردنية من شمالها إلى جنوبها. من ناحية الأثر، لم يكن لهذه الاحتجاجات أثر فعلي على تعليق أو إلغاء الاتفاقية، حالها حال مختلف الدعوات السياسية في الشارع الأردني والتي شارك بها الطلبة أيضًا بزخم كبير، لكن الاتفاقية شكّلت بالضرورة محطة فارقة في تاريخ العمل الطلابي في الجامعات الأردنية.
- كيف تعتقد أن اتفاقية وادي عربة شكّلت مرحلة مفصلية في تاريخ الحركة الطلابية الأردنية؟
شهدت هذه التحرّكات اعتقالَ عددٍ من الطلبة والتضييق عليهم للحدّ من نشاط الطلبة في المجالس والاتحادات. أدركت حينها الجهات الرسمية أنّ جموع الطلبة هي لبنة مركزية في قيادة الحراك السياسي، كيف لا والطلبة الذين ينشطون في كتلهم واتحاداتهم وجامعاتهم هم من يقودون المشهد السياسي في الشارع الأردني، فمنهم من أصبح أبرز وجوه الأحزاب والحراكيين أو حتى التشكيلات الحكومية. أذكر منهم زميلي في اتحاد طلبة مؤتة عبد الله أبو رمان وهو الذي شغل عام 2011؛ منصب وزير دولة لشؤون الإعلام والاتصال في حكومة معروف البخيت الثانية.
ولذلك، شهدت اتحاد طلبة مؤتة تعليقًا لعمله مرات عديدة، منها حلّه عام 1998 بالتزامن مع رفض اتفاقية واي ريفر التي وقعتها السلطة الفلسطينية مع الاحتلال الاسرائيلي لضبط التنسيق الأمني ومحاربة العمل المقاوم بعد اغتيال الشهيد يحيى عياش. كما شرعت الجامعات الأردنية في تعديل أنظمة الانتخابات وتعليمات الاتحاد ونقلها لنظام الصوت الواحد والتأثير على العملية الانتخابية حتى تكاد تكون هذه الاتحادات أشبه بالتعيين. برأيي فإن نظام الصوت الواحد في الجامعات كان له أثر سلبي على جودة اتحادات الطلبة، إذ كرست فكرة الانتماءات الإقليمية بدلًا من الفكرية والسياسية، وأصبحت المجالس الطلابية تفرز على أساسات عشائرية، وليس أساس الكفاءة أو الفكر، فالعشيرة الأكبر عددًا هي من تحصد على أكبر عدد من المقاعد وليس الكتلة الأفضل برامجيًا.
استمرت الاحتجاجات الطلابية الرافضة لوادي عربة لشهور، وبعدها أصبحت هذه النشاطات تتكرر في كل ذكرى للاتفاقية، وانخرط الطلبة في الاضراب المدني الذي أعلنت عنه القطاعات المهنية والتجارية الأردنية رغم أن الدوام في جامعاتهم لم يجرِ تعليقه. شكّلت اتفاقية وادي عربة حينها رهانًا على وعي الطلبة، فلم تنطلي عليها مبررات الحكومة الاقتصادية ودعواتها لدعم التوقيع مقابل “الحفاظ على حقوق البلد ومكتسباته”، وكان الطلبة أول من حذر من تبعاتها الارتهانية التي نلمسها اليوم.
اعتقد أن هذا الحراك الرافض لاتفاقية وادي عربة شكّل مرجعية لمختلف التحركات الرافضة للتطبيع فيما بعد بما فيها اتفاقية الغاز الأردنية الاسرائيلية. راكم الطلبة على هذا التاريخ والمعارف والجهود وتجاوزوا تحديات عدة كنا نمر بها. على وقتي، لم يكن هناك وسائل اتصال سوى الهواتف الأرضية، وحتى الكاميرات البسيطة التي كانت لدينا لتوثيق التحركات تم مصادرتها وإحراق أفلامها كاملةً، هذا الواقع مختلف اليوم، إذ حدت قدرتنا على التواصل والنشر من تأثيرنا في تغطية تحركاتنا والتنسيق فيما بينها.
- في ظل الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة ولبنان اليوم والمستمرة منذ أكثر من عام، كيف تقيّم التجربة الطلابية لاتحادات الطلبة والقوى الطلابية في دعم القضية الفلسطينية والتفاعل مع مختلف مستجدات الحرب؟
للطلبة دور رئيسي في دعم القضية الفلسطينية ومساندة الشعب الفلسطيني ضد العدوان الواقع عليه، ورغم التحركات الاحتجاجية والمدنية والثقافية التي جرى تنظيمها، إلا أنني أرى اتحادات اليوم “منزوعة الدسم”. للأمانة، لا أشعر أن اتحادات الطلبة وحال الحركة الطلابية اليوم كما في السابق، وليست هذه مقارنة حول التأثير والجدوى، بل حول مستويات الوعي والجدية.
ساهمت مخرجات التعليم في الجامعات، ودخول الطلبة لمؤسسات التعليم العالي بلا رصيد فكري وتربوي في غياب الكفاءات الطلابية التي تقود حالة سياسية نوعية، واعتقد أن هذه المخرجات بدأت بالتراجع منذ عام 2015، بالتزامن مع خفض مستويات امتحانات الثانوية العامة ورفع أسعار الرسوم الجامعية واتخاذ سياسات تربوية وتعليمية رأسمالية. عندما يصبح جزءًا كبيرًا ممن يدخلون الجامعات غير مؤهلين، فإن هؤلاء الطلبة لا تحركهم القضايا الطلابية والحقوقية، بقدر ما تحركهم الانتماءات الفرعية.
من ناحية أخرى، عززت عمادات شؤون الطلبة قبضتها على حريات الطلبة وحقوقهم، وشهدنا خلال الحرب الحالية، رغم التفاعل المتواضع للطلبة، استدعاءات وملاحقات متكررة للطلبة الناشطين والذي يحاولون ردم انقطاع العمل الطلابي والذي دام لأربعة سنوات بسبب جائحة كورونا. في النهاية، فإن تجربة اليوم مختلفة عن تجربة الأمس لكن هناك الكثير مما يمكن تعلمه من المحطات المختلفة للحركة الطلابية الأردنية ونضالها، حتى لو لم تكن هذه الأحداث مثالية.