
عندما قرّرت الجامعة الأردنية عام 2014 رفع رسوم ساعات البرنامج الموازي والدراسات العليا ما بين 100-180%، اعترضت الكتل الطلابيّة بتنظيم أكثر من 25 فعالية، ما بين وقفات احتجاجيّة وكتب رسميّة وتغطيات إعلاميّة، لم تفلح في الضغط على الجامعة بالعدول عن قرارها. ولذلك، جاء الاعتصام المفتوح كقرارٍ لا رجعة فيه ولا تنازل. بعد مرور سبعة أعوام على أحد أهمّ المحطات الطلابيّة التي حقّقت إنجازًا ما زالت انعاكساته حاضرة حتّى اليوم، يحاول هذا المقال استخلاص أهمّ الدروس المستفادة من هذا الحدث الهام بقلم طالبٍ كان جزءًا من الاحتجاجات التي صدحت في أرجاء الجامعة: “مين قال الطالب مات؟ هيو بيهتف بالساحات”.
أثبتت تجربة الاعتصام المفتوح أنّ الجيل الشاب من مواليد التسعينات والثمانينات قادر على التغيير والبناء والاصلاح، لا بصفة المساهمة والتمكين، بل بشرعية القيادة التي أزاحت كلّ تهم التقاعس والتخاذل التي يُراد بها تعزيز حالة انهزاميّة تخدم سلطات محددة. هذه القيادة التي لا تأتي بلحظة أو فزعة آنية، بل بعمل منظّم وإرادة صلبة مصممة على إكمال الطريق حتّى تحقيق الهدف والتأثير في الواقع بشكل جذريّ، وليس تحسينه فقط.
لقد كان طريق إلغاء قرار رفع الرسوم الجامعية طويلًا ومجهدًا ومحفوفًا بالتحديات والضغوطات، وما زال كذلك في ظل قرارات رفع الرسوم التي اتخذتها جامعة اليرموك مؤخرًا تحت تسمية “إعادة الهيكلة”، لكن الحقيقة هي أنّ المسألة تكمن في إيمان الطلبة بأنفسهم وقدرتهم على إيقاف الظلم ومكافحة الفساد وانتزاع الحقوق. في الاعتصام المفتوح، تمكّن الطلبة من الوقوف في وجه الإدارات الجامعيّة المُجحفة، بل وأصبحوا جزءًا من مجالس الإدارات وصناعة القرار بدون أن يتورطوا في المنظومة البيروقراطية أو يبتعدوا عن هموم الشارع.
عكست تجربة الاعتصام وحدة حضاريّة ووعي نوعي يدرك فيه الطلبة أنّهم على اختلاف توجهاتهم وأيدولوجياتهم وأصولهم يمكنهم التوحّد تحت مظلة واحدة ولأجل هدف حقوقيّ واحد يخدم كلّ واحد منهم، بدون أن يكون هذا التوحّد شكليًا، بل بثقة عميقة ومتبادلة تهمها مصلحة الطالب وتبني جسور التواصل. هذا المنجز هو درس عظيم لقّنه الطلبة لكلّ السياسيين والمسؤولين وقادة الأحزاب والنقابات والنواب ممّن لا يمكنهم الترفّع عن المصالح الشخصيّة من أجل تغليب المصلحة العامة العليا.
لم يمارس الطلبة في الاعتصام المفتوح أيّة تصرفات غير حضاريّة أو غير سلميّة رغم أنّهم كانوا عُرضة للقمع من خلال فض الاعتصام، وقيام الأمن الجامعيّ بجمع هُويات المعتصمين ومنع إقامة الصلاة أمام بوابة الجامعة في “جمعة إسقاط القرار”، بل عبّروا عن رأيهم في هتافات لاذعة وأغانٍ ساخرة ومنشورات على مواقع التواصل الاجتماعيّ، لأنّهم يدركون الوضع السياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ للبلاد ويقدّرون كلّ خطوة من شأنها تفويت الفرصة على المنتهزين وصناع الفتن، وهو ما ضغط على الجامعة لفتح آفاق وسبل الحوار والوصول إلى حلّ عادل.
أثبت طلبة الجامعة الأردنيّة أنّهم يَعون ما يحدث حولهم في الساحة السياسيّة ودوائر صنع القرار، ما يعني ضرورة أن ينؤوا بأنفسهم عن أيّة تجاذبات وصراعات بين الأطراف المختلفة وعن أنصاف الحلول التي لا ترضي الهمّ الطلابيّ. كان المطلب الكامل وعدم الحياد عنه رغم كلّ المحاولات للزجّ بهم في صراعات شخصيّة وجعلهم أداة لطرف على الآخر هو البوصلة التي أكسبت الطلبة خبرة ومعرفة وعلاقات عميقة في التنظيم وإدارة المشهد.
صدّر ممثلو القوى الطلابيّة واتحاد الطلبة والتجمع الطلابيّ خطابات إعلاميّة وتصريحات صحفيّة موزونة وعقلانيّة، تمسّ مشاعر الطلبة وأهاليهم، وذات مستوى عالٍ من المهنيّة والمسؤوليّة والدقّة والوضوح، بعيدًا عن الانفعال أو التأثّر بالشائعات والتهم الباطلة وتكالب بعض وسائل الإعلام عليهم. كان الحضور الإعلاميّ للاعتصام يضع الجامعة في مأزق ويعكس عمق التكاتف والتآخي الذي جَعَله الطلبة حقيقة مُعاشة وتاريخًا يُروى، بعد أن تلاحموا معًا لمدة تزيد عن الشهر وتلاشت بينهم الاختلافات الوهميّة والجدران المصطنعة والخلافات السطحيّة.
تمتّع التجمع الطلابيّ، الذي تشكّل بهدف إسقاط قرار رفع الرسوم، باستقلالية فرديّة وكيان خاص غير مرتبط ومتأثّر بجهة معينة لكنّه يسمح للجميع بأن يكونوا جزءًا منه، الأمر الذي شكّل أحد أهمّ عوامل استمرارية الحركة الاحتجاجيّة حتّى تحقيق المطالب وتوسيع شريحة الطلبة المشاركين. بدا ذلك واضحًا أيضًا في استرجاع مؤسسة اتحاد الطلبة لدورها الفعليّ والحقيقيّ بتبني قضايا الطلبة والسعي لحلّها، وتفعيل دور القوى الطلابيّة المُشاركة: أهل الهمة والتجديد والعودة والعروبة وغيرهم من الطلبة الشيوعيون والمستقلين وأبناء العشائر .
ولأنّ الاعتصام كان أنموذجًا، فقد حظي بتفاعل مجتمعيّ واسع وتغطية إعلاميّة وطنيّة ودعم من الشخصيات الوطنيّة والإعلاميّة والشبابيّة عبر صفحاتهم الشخصيّة و تواصلهم المباشر مع الطلبة، مع أنّ مجلس النواب والأحزاب الأردنيّة والنقابات المهنيّة ومؤسسات المجتمع المدنيّ لم تمارس دورها الحقيقيّ. لمست حالة الاعتصام هموم الشارع الأردنيّ ووضعهم المعيشيّ والاقتصاديّ الصعب، وأعطى هذه الدعم الخلاق شعورًا معنويًا أفضل للطلبة ومسؤوليّة حقيقيّة تُلقى على عاتقهم.
لا تنفي هذه العبر حول واقع العمل الطلابيّ التحديات والدروس القاسية التي عايشها الطلبة، مثل تخاذل الغالبية العظمى من الأكاديميين والمدرسين عن نصرة أبنائهم من الطلبة وتطبيق دروسهم النظريّة بشكل فعليّ، بل ووقوف العديدين منهم في وجه الطلبة دون أدنى فهم وإدراك لمطالبهم العادلة، وهو ما تسبب في زيادة الشرخ بين الطلبة ومدرسيهم وأثبت أنّ بعض هؤلاء الأكاديميين والإداريين قد آثر وفضّل منفعته الشخصيّة على المنفعة العامّة.
حاولت الجامعة خنق الاعتصام من خلال أدواتها المتاحة، إلّا أنّ الاعتصام قد أثبت أنّ لغة التهديد والوعيد وتحويل الطلبة المعتصمين إلى لجان التحقيق تعبّر عن إفلاس في الحلول لدى المعنيين، خصوصًا في ظل عدم استقلالية مكاتب قضايا الطلبة، وارتباطها بالمنظومة الرسميّة من صُنّاع القرار وتراجع الثقة بعدالة القانون والأنظمة والتعليمات التي تستخدم كمرجع لفض النزاعات.
لا يَرقى الدعم الحكوميّ للجامعات الأردنية للمستوى المطلوب الذي يحقّق نهضة تعليميّة وفكريّة وبحثيّة، حيث بلغت قيمة موازنة الجامعة الأردنية 121 مليون دينار مقابل مليار و300 مليون كموازنة لجامعة عين شمس المصرية رغم تقارب الجامعتيْن على تصنيف QS للجامعات العربية. هذا التراجع الذي يمكن الاستجابة له عن طريق محاربة الفساد وعلاج الترهل الإداري وبحث الحلول المستدامة واسترداد المستحقات وزيادة المخصصات بدلًا من استهداف جيب الطالب والمواطن لسدّ العجز والمديونية.
لا تعني هذه الأفكار أنّ تجربة الاعتصام كانت مثاليّة وخالية من المشاحنات والتخبّطات في بعض الأحيان، لكنّها تسلّط الضوء على حالة جديرة بالدراسة والمراجعة. ولا ينبغي أن يتم الحديث عنها في سياق التمجيد المحض، بل في سياق التقييم الذي يؤسس لتحركات طلابيّة أكبر وأهم. عندما أعلنت القوى الطلابية إسقاط قرار رفع الرسوم، فَرِح الطلبة، كلّ الطلبة، ورموا أوراقهم في الهواء وأخذوا يعانقون بعضهم البعض ورقصوا وهم يحملون الغطاء الذي ناموا فوقه ووزعوا الكنافة على رجال الأمن، لكنّهم جميعًا كلّما مرّوا من أمام رئاسة الجامعة قالوا: “هنا موقع الاعتصام”.