
كنتُ قد انضممت للجامعة الأردنيّة عام 2021، بحماسٍ ورغبة كاملة في خطّ تجربة جامعيّة حافلةٍ بالتجارب والخبرات المُدمجة ما بين التعليم الأكاديميّ لتخصصي، والتعليم الحياتيّ الشخصيّ القادم من الانخراط في العمل الطلابيّ، وبالعودة قليلًا إلى الوراء، حيث لم أكن أمتلك لا الجرأة ولا الرغبة في الإفصاح عن مكنون أفكاري ومنظوري الخاص في بعض الأمور للعامة جُلّ الوقت، إلّا أنّي وكفردٍ خاض حياة الغُربة في الإمارات، اخترتُ بإصرار خفيّ إكمال رحلتي وخوض غُربة اللّاغربة، تحديدًا في الجامعة الأم، الجامعة الأردنيّة، باعتبارها الأغنى تاريخيًا بالاشتباك والتأثّر بالشارع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ.
خلال ما انقضى، تحديدًا عام 2020 وحتى اليوم، سُنِحت لي فرصًا مختلفة لخوض تجربة العمل التطوعيّ والطلابيّ، في جوانب عدّة، كان منها الإنسانيّ، والمجتمعيّ، والحقوقيّ، حيث تأملت الكثير من الثغرات التي لا بدّ من تسليط الضوء عليها، وما كان ذلك إلّا لرسم صورة واقعٍ ومستقبلٍ أفضل لساحات العمل الطلّابيّ والتطوعيّ. ثقافة الفزعة كردّ فعل طلّابيّ هي سلاحٌ ذو حدّين، تُمكّن الطلبة من انتزاع حقوقهم أو تسليط الضوء على قضاياهم بما فيها القضيّة الفلسطينيّة، حيث لا مساحة رماديّة بين الحقيقة والخيانة، لكنّها في كثير من الأحيان عكست حِراكًا متهور الطابع وغير محمود العواقب.
تظهر الفزعة كممارسة عامّة بشكل جليّ في انتخابات اتحاد الطلبة، حيث تجد القوائم الطلابيّة أنّ الاعتماد على القاعدة الشعبيّة العشائريّة أو الاستمالة العاطفيّة للقضايا العادلة هي الأسهل من التخطيط وتقديم برامج انتخابيّة وآليات واضحةٌ لتحقيق الأهداف. الأمر الذي يحوّل الانتخابات من تجربة نوعيّة إلى مسابقة يفوز بها أصحاب الأصوات الأعلى أو الفزعة الأكبر. ينعكس هذا على المخرجات وقوّة اتحاد الطلبة وقدرته على صناعة القرار والدفاع عن المطالب.
مؤخرًا، بعد إعلان نتائج القبول الموحد واستثناء 23 ألف طالبًا من القبول شهر يناير 2023، تحرّك الطلبة بشكل غير مدروس في احتجاجات محدودة لشمول جميع الطلبة في المنح والقروض وأطلقوا الهاشتاقات المختلفة. رغم أنّ هذه الحالة لفتت النظر للقضيّة وضغطت على مجلس النواب لطرح القضيّة، لكنّهم لاحقًا لم ينالوا أدنى التزامًا بشمول الطلبة في قضية متجدّدة وتقليدية نظرًا لأنّ الطلبة انشغلوا بالاحتفال وشكر المجلس على واجبه.
لا تنعكس الفزعة في نتائج غير إيجابيّة فقط، بل قد تضرّ أصحابها على المدى البعيد. حادثةٌ أخرى كانت حديث مواقع التواصل الاجتماعيّ شهر يونيو 2022، هي قضية اتهام دكتور جامعيّ في جامعة العلوم والتكنولوجيا بالتحرش بالطالبات عبر منشورات إلكترونيّة على منصة “تويتر”. بعد ستة أشهر على الحادثة، تمّ إعلان براءة الدكتور ولم يحقّق الطلبة أهدافهم في المساءلة ومحاربة ظاهرة التحرش، بل تعرّضت مجموعة منهم للمسائلة القانونيّة. هذا لا يعني أنّ الطلبة لا يجدر بهم التحرّك لجعل قضاياهم قضايا رأي عام تشغل الشارع، بل يعني أنّ التحرّك بمنهجيّة أكثر وبوجود الأدلة كان سيقود لنتائج أفضل.
شكّل الاعتصام المفتوح عام 2016 حالة هامة وملهمة للعمل الطلّابيّ المنظّم، وربمّا هو الشاهد الأكبر على ضرورة التخطيط المُسبق والدراسة والضغط الجاد المرافق للاستجابة الملحّة، وكيف يُحدثان فرقًا شاسعًا قد يقلب الطاولة رأسًا على عقب لمصلحة الرأي الطلّابيّ، في موقفٍ لم يكن مُبررًّا من طرف إدارة الجامعة. تعاونت الكتل الطلابيّة في اتحاد الطلبة وشاركت حملة “ذبحتونا” والطلبة المستقلين في التنسيق للاعتصام الذي أدّى في نهاية المطاف إلى انتصار طلابيّ.
تشير هذه الأمثلة بالإضافة إلى ما شهدته في الفترة الأخيرة في تجربتي في العمل الطلّابيّ لوجود خلط كبير غير مفهوم بين الاعتماد الفزعة كحل للمشاكل وبين التحرّك الممنهج مع الواقع الطلّابيّ وقضاياه. بات السؤال هنا، هل النضال من أجل القضايا الطلابيّة هو عملٌ ممنهجٌ أم مدفوعٌ بالفزعة والحماسة؟ وهل كل تلك النصوص المُتّسقة والأنظمة الداخليّة والأهداف والغايات التي تضعها القوائم والأفرقة هي آليةٌ مُعتبرة أم مجرد كلام منمّق؟
تلغي الفزعة إمكانية التوصّل لحل وسطيّ مع الأطراف المسؤولة في الجامعة بما يخدم مصالح الطلبة، وقد تقود الشارع الطلّابيّ للتحريض غير المدروس أو الرفض بدون الفهم. لأنّ الإصرار على تحقيق الأهداف أمر والتعنّت أمر آخر. ليس بالضرورة اعتبارُ كل ما تقدمه الجامعة أو تقترحه هو أمر لا يوافق التطلّعات أو يُوائم الرغبات، بل يجب دراسة القرارات بمنهجيّة عالية، وتفحّص أبعادها وجوانبها كافّة، حيث تكون مصلحة الطالب هي البوصلة، قبل إصدار خطوةٍ أولى، حتى لا يدفع جميع الطلبة فيما بعد ثمن تهوّر بعض الأفراد الذين سيتيحون المجال للجامعة لمعاقبتهم وتضييع القضيّة.
إنّ التحرّك الطلّابيّ بموجب الفزعة ليس قرارًا جمعيًا يقوم به الطلبة أيضًا وغالبًا ما يكون جوهره تصرّفات فرديّة للطلبة ممن هم في موقع السلطة. المشكلة في الفزعة أيضًا أنّها تعتمد على ردّ الفعل في الدفاع عن القضايا بدون المبادرة بالفعل من الأساس، حيث إنّ التحرّك المفرّغ من الفعل والتخطيط والبرامج الواضحة هو مجرد مركب تحركّه الرياح ولا دور له في صناعة التيار.
شغلتْ هذه المفارقات والأفكار ذهني في آخر التحركات الطلابيّة التي شهدتُها في حياتي الجامعيّة، حيث ألحظُ تراجع مستوى العمل الطلّابيّ حتى في التجارب التي حاولت استعراض نفسها بأنّها جادة ومختلفة. إنّ الاعتماد بشكل رئيسي على الفزعة وليدة اللحظة والقائمة على العواطف المُنسابة، لا يُسجّل أهدافًا إلّا في مرمى الأطراف المقابلة، ولا يحقّق المطالب المرغوبة، لكن تشخيص هذه الظاهرة ومعالجتها بشكل قصدي ربما يسهم في تصويب وجهة ومنهجيّة العمل الطلّابيّ.