مدونات الطلبة

تفاعل الطلبة مع الحرب على غزة: ماذا حقّقنا؟

عدي العليمات

من المسيرة الحاشدة التي انطلقت من المسجد الحسيني في وسط البلد في عمّان رفضًا للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تصوير شربل ديسي، 13 تشرين الأول 2023

منذ بدء العدوان الصهيوني على غزة في السابع من تشرين الأول الماضي، لم ينضبْ نشاط الطلبة في الجامعات الأردنية عن التحرك رفضًا لمعاناة الفلسطينيين في غزة ودعمًا لحقّهم في المقاومة لنيل حقوقهم المشروعة في أرضهم. عقدَ الطلبة حتى منتصف تشرين الثاني الجاري أكثر من عشرين وقفة وسلسلة بشرية تمكنت المدونة الطلابية من توثيقها وتغطيتها إعلاميًا، وسبعة معارض طلابية وطنية توعوية حول القضية الفلسطينية، وثلاثة إضرابات طلابية امتدّت لساعات محدودة أثناء الدوام الجامعي. شهدت الجامعات أيضًا تحركاتٍ ميدانية مختلفة، مثل عشرات صلوات الغائب التي عقدت عن أرواح الشهداء واستعرضت كبديلٍ عن زفات الخريجين النهائية، كما نظّم الطلبة مرّتين دعوات لصلاة الفجر العظيم كنوع من الرباط والدعاء في مسجد الجامعة الأردنية. 

كان الطلبة أيضًا جزءًا من الإضراب العالمي الذي حظي بانتشار والتزام واسعيْن في الأردن في الحادي عشر من كانون الأول، وساهموا أيضًا بتحركات توعوية مرتبطة بتوزيع المنشورات والملصقات الطلابية، ودعوا إلى مقاطعة المنتجات الداعمة للاحتلال عبر حملات طالت أكشاك الجامعات والمطاعم المحيطة بها. رغم أنّ هذه التحركات هي ما نعرفه عن تفاعل الطلبة في الجامعات الأردنية مع طوفان الأقصى والحرب على غزة، إلّا أنّ ثمة تحركات مغمورة لم تحظ بالرصد والتغطية الكافية، مثل بعض الفعاليات الثقافية لقراءة الكتب التي تعنى بالأدب الفلسطيني وتاريخ غزة، وبعض الندوات التي عقدتها عمادات شؤون الطلبة حول الفكر الصهيوني، واهتمام الطلبة بتقديم مشاريع تخرج ذات علاقة بفلسطين، مثل اللوحات في أقسام الفنون أو مقترحات إعادة إعمار المدن في أقسام الهندسة وغيرها. 

ما زال الطلبة مستمرون في تنظيم الفعاليات والأنشطة مع بدء عطلة ما بين الفصلين ضمن منحنين إضافيين هما؛ التفاعل مع الأحداث الأوسع في الساحة الأردنية مثل الدعوة لحضور الوقفات قرب السفارات وفي وسط البلد، بالإضافة إلى المنحى الرقمي في التفاعل مع بعض الهاشتاقات والحملات الإعلامية لدعم قضية جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية ودعوة مصر لفك الحصار المفروض على غزة عبر معبر رفح وإعاقة إدخال المساعدات. في المقابل، شهدت الأوساط الطلابية بعض التضييقات والعقوبات، أبرزها في الجامعة الأردنية والهاشمية وآل البيت وجامعة العلوم التطبيقية الخاصة. 

بعد مرور أكثر من مئة يوم على الحرب ودخولها مرحلة جديدة منها قد تمتدّ لحرب إقليمية، ثمة حاجة طلابية لتقديم تحليل نقدي للمشهد الطلابي وتفاعله مع غزة منذ بدء طوفان الأقصى. في ظلّ التحركات الميدانية والرقمية المذكورة أعلاه، وكذلك بعض التضييقات التي رافقتها، يحاول هذا المقال استخلاص الملامح العامة لهذا التفاعل الطلابي مع فلسطين، قضية مركزية تشكل جوهر القضايا الوطنية التحررية التي لطالما حرّكت الطلبة وألهمتهم بمختلف كُتلهم وتوجهاتهم السياسية. إنّ عرضَ وصفٍ للفترة الماضية من المشهد الطلابي لا يعني أنّ هذه التحركات قد وصلت إلى نهايتها، بل يعني أنّه ينبغي لها أن تأخذ منحى أكثر جدية يراكم على المشاعر اللحظية والتفاعل العفوي الصادق، ويستخلص الدروس والعبر المستفادة بما يتيح رفع سقف حرية التعبير عن الرأي وتجاوز العقبات القادمة.

كانت الثمرة الرئيسية للتحركات الطلابية الوطنية السابقة هي توحيد بوصلة العمل الطلابي لتبنّي موقفٍ وتفاعلٍ موحّد، وسط حالة من تشتت القوى السياسية من نقابات وأحزاب في الشارع الأردني، والتي انعكست بدورها على العمل الطلابي داخل الجامعات وأدّت إلى غياب الموقف الموحَّد فيما بينهم وغياب العمل الجاد في خلق جسم يمثّل مطالبهم ويدافع عن حقوقهم. بعد ثمانية أيام من عملية طوفان الأقصى فقط، أدركت الكتل الطلابية أهمية تنظيم نفسها وتوحيد جهودها بإطلاق الملتقى الطلابي لدعم المقاومة. الملتقى بحدّ ذاته ليس هدفًا، لكن تشكيله والدعوة له وانفتاحه لضم الكتل والأفرقة الأكاديمية الصغيرة أيضًا مكّن رفع سقف العمل الطلابي وتنظيم عدد من الوقفات الطلابية داخل الجامعات وتشكيل مظلة تعقد إمكانية محاسبة الطلبة واستهدافهم. 

لم يَغِبْ الملتقى عن الدعوة للمظاهرات الجماهيرية في الشارع الأردني، حيث كان الشباب من الحضور الثابت وبرز بين وجوه “الهتّيفة” أيضًا، ما يساهم بانخراط حقيقي في الشأن العام والمشاركة السياسية. كان التحرك الأول والأبرز الذي نظّمه الملتقى هو دعوة إلى تعليقٍ مؤقت للدوام. اختبر هذا الإضراب الجزئي سقف التعبير وأهمية المضلة الشعبية في قيادة المشهد وكشف أيضًا الأصوات الشاذة المنشقّة عن الصوت الطلابي، والتي كان من الواضح أنّها لن تكون جزءًا من أيّ تحرك مستقبلي وطني جمعي قادم. اليوم، لا ينبغي أن يحتلّ الملتقى مسمّا وصفيًا فحسب، رغم أنّه تشكّل بناءً على ردة فعل، بل أن يتنزع مساحةً أوسع من التحرك المستدام في المجال التوعوي والوطني ويمتد منه للقضايا الطلابية أيضًا. 

أعادت أحداث الحرب على غزة للطلبة إيمانهم بما يتمتعون به من ثقافة وقدرة تنظيمية، حيث أدركوا أنّ دورهم في الجامعات لا ينحصر في حضور المحاضرات وأداء الامتحانات فقط، بل يمتدُّ إلى إمكانية تأثيرهم في عملية صناعة القرار وتغيير مجرى الأحداث وتصدير موقف مشرّف، أحيانًا لا تفلح الدول والقيادات في تقديمه. كسرت الحالة الطلابية قيودًا سياسية مختلفة، كانت امتدادًا للظروف العامة، أبرزها الهتافات السياسية الداعمة للمقاومة الفلسطينية وقيادتها، وكذلك توزيع الملصقات المختلفة. إلى حدّ ما، لم تكن الهيئة التدريسية منفصلةً عن هذه التحركات، حيث استجاب عدد منهم إلى دعوات الإضراب وقام بعضهم بلفتات رمزية في القاعات التدريسية وقام البعض بتأجيل مواعيد الامتحانات أو تحويل المحاضرات عن بعد بالتزامن مع مواعيد الوقفات. 

من مكاسب المرحلة السابقة أنّ نظرة الطلبة لكثير من المفاهيم الأساسية قد تغيرت، أهمها فهمهم لذواتهم وهُويتهم. مع بروز الصورة الحقيقية للدول الغربية، والتي كانت تقدّم نفسها نموذجًا مثاليًا لحقوق الإنسان والحريات، أدركوا حاجتهم لمساءلة أنفسهم وأنظمتهم التعليمية وأسلوب حياتهم فيما يناهض التفكير الإستعماري الأبيض المستشرق. كانت أبرز تجليات هذه الحالة هي حالة من الخطاب العام الذي يرفض حضور الأذرع الأجنبية وتدني شعبية فعالياتها داخل الحرم الجامعي، مع إيمان الطلبة بأنّ الأجسام التي يشكّلونها هي التي تمثّلهم وتحرّكهم في الأوقات المفصلية. استجاب الطلبة سريعًا وبشكل واسع لمقاطعة التطبيع الأكاديمي في محطتين هما دفع جامعة البوليتكنك لإلغاء فعالية مع شركة سيسكو التي تقدم خدماتها للجيش الصهيوني، وانسحاب مئات الطلبة بشكل جماعيّ من المسابقة العالمية “هالت برايز” بعد علمهم بمشاركة جامعات إسرائيلية. 

أدّت التضييقات والعقوبات التي وقعت على الطلبة لظهور حاجة ملحّة تستلزم إعادة النظر في التشريعات الطلابية التي يتم العمل ببعضها منذ عهد الأحكام العرفية، مثل قانون “تأديب الطلبة” الذي كان سندًا قانونيًا لمحاسبة الطلبة في لجان تحقيق على خلفية تنظيمهم لوقفات طلابية، وقانون تنظيم العمل الحزبي داخل الجامعات الذي منح العمادات صلاحيات رفض الموافقة على عقد معارض وطنية. وصلت الرقابة الجامعية حدّ محاسبةِ الطلبة على منشوراتهم في مواقع التواصل الاجتماعي وإسناد عقوبات وصلت للفصل النهائي بحقهم. غاب الصوت الإعلامي عن لفت النظر لهذه المشاكل التشريعية التي تصبح أدوات قمعية في المحطات الوطنية والسياسية الهامة. 

ينبغي أن تؤسس التحركات السابقة لقاعدة تحركات وخطط طلابية طويلة الأمد، لأنّها شكّلت فترة انتعش بها العمل الطلابي، وكذلك قدرة الكتل الطلابية على التوسع والحشد. أعادت عملية طوفان الأقصى الثقة للعمل الطلابي وجدواه في الضغط السياسي. كما كسرت الحالة العامة من الاحتجاج والخوف عند أهالي الطلبة أيضًا الذين كانوا شاهدين على أبشع الجرائم المرتبكة بحق الفلسطينيين حيث تصبح الوقفات أضعف الإيمان. استكشفت الوقفات الطلابية جامعات وكليات جديدة شهدت نواة طلابية يمكن أن تقود مستقبلاً جهودًا وطنية، ومكّنت أيضًا من تعميم تكاتف الطلبة مع بعضهم البعض، عبر الدفاع عن حقهم وحقوق زملائهم بالتعبير عن الرأي دون التعرض لهم رسميًا أو بشكل غير رسمي. 

لا تخلو هذه المحطات والدروس المستفادة من العقبات التي عرقلت تجربة العمل الطلابي التنظيمية، أخفقت بعض الكتل الطلابية في الموازنة بين الاستجابة لمستجدات الحرب على غزة مع القضايا الطلابية الحقوقية. مرّرت وزارة التعليم العالي نهاية كانون الأول الماضي تعديلات على تعليمات صندوق دعم الطالب ستحرم آلاف الطلبة من حقهم في الحصول على المنح والقروض. ونعى الطلبة منتصف كانون الأول الماضي خمس طالبات من جامعة العلوم والتكنولوجيا على خلفية تدهور الباص وتحديات غياب النقل الآمن للطلبة. شهدت التحركات أيضًا تخبطات مختلفة، ألغى الملتقى الطلابي مؤتمرًا صحفيًا قبيل ساعات من عقده كان قد دعا إليه بعد اعتقال عدد من الطلبة، بيَّن الملتقى أنّ سبب الإلغاء هو وعود قطعها بعض المسؤولين بالإفراج الفوري عن الطلبة، والذين لم يفرج عنهم إلّا بعد أيام. شهدت الكتل الطلابية فتورًا في تنظيم تحركات جادة حيال الطلبة الذين تعرضوا للفصل في جامعة العلوم التطبيقية الخاصة وممن ما زالت عقوباتهم نافذة حتى اليوم، إذ اقتصرت جهودهم على الأدوار الإعلامية التنديدية. 

إنّ مراجعة الدور الطلابي وتقييمه في ظل تفاعلاته الواسعة بين الطلبة والكتل أنفسهم وعلاقتهم مع الجامعة والأحزاب السياسية والمجتمع هي عملية دورية ومستمرة تهدف لتوثيق الفعاليات الطلابية وأدوارها، لكن الأهم منها هو تطوير الممارسة الطلابية ورفع سقفها. جاءت هذه الأحداث في خضم فترة حساسة يعاني بها الطلبة من موارد وخبرات محدودة، وكذلك فتور سياسي تبع تصويب الأحزاب السياسية الأردنية. الأمل أن تكون جهود الطلبة ومساحاتهم أكثر تقدمية وحضارية من السقف السياسي الذي تمارسه الاحزاب عمومًا في الأردن، وفيها هذا من الدروس والتحديات الكثير، لكن التحدي الأكبر أمام الطلبة اليوم هو أن يفقدوا الجدية والحماسة لقيادة حالة وطنية أكثر استمرارية وجدية، معتقدين أنّ الحرب على غزة انتهت، والتفاعل معها كذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى